العدد 468 -

السنة التاسعة و الثلاثون ، محرم 1447هـ الموافق تموز 2025م

مفهوم التمكين في القرآن الكريم

أ.أحمد القصص-لبنان

     قال تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥).

حين نتكلّم عن التمكين فنحن نتكلّم عن القضية التي أُرسل من أجلها الرسل والأنبياء عليهم السلام، فالقضيّة التي نتكلّم عليها في هذا المقال ليست قضيّة تمكين شخص أو أشخاص، وإنما هي قضيّة تمكين الدين وتمكين الأمّة التي تقيم هذا الدين. والغاية من إقامة الدين هي أن توجد على هذه الأرض طريقة العيش التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى للناس. ومن أواخر ما نزل في كتابه العزيز: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ)، أي رضيت لكم الإسلام ولاءً وإيمانًا وشريعةً وطريقةَ عيش. فكلمة الدين تشمل كلّ هذه المعاني. والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلّا بعد أن أتمّ المهمّة، بأن بلّغ الرسالة. ولم يقتصر فعله صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة، وإنّما أقام للإسلام صرحًا سياسيًا مكّنه الله سبحانه وتعالى في الأرض، فلم يذهب من هذه الحياة الدنيا إلّا وقد ترك دولة إسلامية، دارًا للإسلام تشمل جزيرة العرب بأكملها، ليتابع بعده الخلفاء الراشدون ومن أتى بعدهم المسيرة بتوسيع دولة الخلافة الإسلامية، وهي المسيرة التي استمرّت قرونًا، إلى أن حلّ زمانٌ تنكّبت الأمّة فيه عن القيام بهذه المهمّة، وزال سلطانها من الأرض، وغاب تمَكُّنها كلّيًا. وهي الآن في صدد العمل للتمكّن من جديد، تريد أن تعود إلى سابق عهدها؛ أمّةً متمكّنة ومُمكّنًا لها دينُها، تُستخلف في الأرض من أجل أن تقوم بالمهمّة التي ابتُعثت من أجلها؛ (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ).

     إذن، حين نتكلّم عن التمكين فإنّنا نتكلّم عن تمكين الدين في الأرض. والتمكين في اللغة من مكن، والتمكين من الشيء الإقدار عليه، والإعانة عليه. ومكَّن له في الشَّيء: جعل له عليه سلطانًا وقدرة. ومن تمكّن من قوم فقد قدر عليهم. فالتمكّن هو من القدرة. فحين نقول: فلان تمكّن في الأرض أي أصبحت له قدرة. وبالطبع فإنّ القدرة في الأرض هي السلطان، فصاحب السلطان وصاحب النفوذ وصاحب القدرة هو المتمكّن في الأرض. هذا المعنى اللغوي للمُكْنة، فحين يمكّننا الله في الأرض فهذا يعني أنّه سبحانه وتعالى أقدرَنا، أي أعطانا القدرة على أن نكون أصحاب القرار وأصحاب السلطان في هذه الأرض، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى في الأرض. وهذا في سياق الصراع الطبيعي الذي وجب على المسلمين أن يخوضوه، ألا وهو الصراع المستمرّ بين الحقّ والباطل، بين الإيمان والكفر. وبهذا المعنى للتمكين وردت آيات في كتاب الله. فمن ذلك قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١). ففي هذه الآية أوضح الله تعالى أنّ الغاية من تمكين عباده الصالحين في الأرض ليست أن يكون التمكين لأشخاصهم وحسب، وإنّما الغاية من تمكينهم أن تكون السيادة لشرع الله، (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ)، وإقامة الصلاة في الآية ليس المقصود منها مجرّد أداء الأفراد لصلواتهم، وإنّما هي إقامة الصلاة في الناس، أي في المجتمع.  والأمر بالمعروف يكون من خلال التمكين، أي من خلال إقامة هذا المعروف بسلطان الدولة على الأرض، وليس بمجرّد الأمر والنهي باللسان، لأنّ الأمر والنهي باللسان إنّما هو مقدور عليه من كلّ الناس تقريبًا، حتّى لو لم يكونوا ممكّنين في الأرض. وكذلك نجد في قوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ ) أنّ الاستخلاف والتمكين وعد من الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات. إذن، التمكين مترتّب على إيمان بالله تعالى وعملٍ بشرعه. { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ}، أي يجعلهم الخلفاء كما استخلف الذين من قبلهم. وقوله تعالى {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}، واضح فيه أنّ الغاية من هذا الاستخلاف ليست استخلاف الأشخاص، وإنّما الاستخلاف هو من أجل تمكين الدين، لأنّ الغاية هي الوصول إلى جماعه مؤمنة  تعيش حياة ارتضاها الله تعالى لعباده. وقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ) وعد منه سبحانه أنّ من ثمار التمكين أن يبدّلهم من بعد خوفهم أمنًا. ثمّ يقول: (يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ ۚ)، وهو دليل إضافي على أنّ الغاية من هذا التمكين هي حياة تتجلّى فيها عبادة الله سبحانه وتعالى، والعبادة في المفهوم الإسلامي لا تقتصر على الشعائر العبادية، فمفهوم العبادة في كتاب الله هو الخضوع التامّ له سبحانه وتعالى، فالمقصود هو الحياة التي تتجلّى فيها العبودية لله سبحانه في كلّ جوانب الحياة، بما فيها العلاقات التي تصوغ المجتمع، فتنشئ طريقه العيش التي تتميّز بها الأمّة المسلمة ممّا سواها، أي حياة يتجلّى فيها طراز الإسلام في العيش. ثمّ يختم الله تعالى الآية بقوله: (وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥)، وفي قوله هذا إشارة إلى أنّ الغاية أيضًا من التمكين في الأرض إظهار الدين بحيث يكون ظهوره، أي غلبته، حجّة على الناس، فيكون بعد ذلك من كفر به من الفاسقين الذين كفروا وفسقوا على الرغم من ظهور البيّنة واضحة على الناس. إذن، هذه الغاية من التمكين، أن توجد جماعة مؤمنة مسلمة تحيا حياة إسلامية، وهي التي تسمّى أيضًا بالتعبير المعاصر  بالمجتمع الإسلامي. فإذا تكلّمنا على المجتمع الإسلامي فنحن لا نتكلّم فقط على مجتمع أجزاؤه المسلمون، فها هم المسلمون اليوم ينتشرون في أصقاع الأرض ويبلغ تعدادهم ما يقارب المليارين، ولكنّهم لا يشكّلون مجتمعًا إسلاميًا، لأنّ المجتمع هو مجموعة من الناس نشأت بينهم علاقات دائمية، وهذه العلاقات الدائمية تعطي هذا المجتمع هُوِيّته وطرازه في العيش. فإذا كانت علاقاته متشكّلة بالإسلام كان مجتمعًا إسلاميًا، وإذا كانت علاقاته متشكّلة بالرأسمالية كان مجتمعًا رأسماليًا، وهكذا. وهذه العلاقات إنّما تكون إسلامية إذا كانت ثقافة المجتمع هي أفكار الإسلام والأنظمة السائدة فيه هي أنظمة الإسلام، أي شريعته. فالمسلمون إن اعتنقوا مفاهيم الإسلام صافية بريئة من أيّة مفاهيم دخيلة وطبّقوا نظامهم الإسلامي في حياتهم حينها يكونون قد تجلّوا مجتمعًا إسلاميًا. فلو أنّ الإسلام انتشر بين المسلمين بمفاهيمه ورغبوا بأن يعيشوا حياه إسلامية ونبذوا كلّ المفاهيم غير الإسلامية ولكن اقتصروا على التثقّف بالاسلام والتزامهم إيّاه أفرادًا، فإنّه ما لم يقم في أرضهم نظام سياسي يطبّق عليهم أنظمة الإسلام ويرعى شؤونهم بها فلن يكون هذا المجتمع إسلاميًا، لأنّ النظام المطبّق في المجتمع دستورًا وقوانين وتشريعاتٍ هو الذي يحدّد المساحة الأوسع من هُويّة هذا المجتمع، فلا يمكن أن يكون المجتمع إسلاميًا ما دامت الأنظمة المطبّقة فيه غير إسلامية، حتّى ولو كان المسلمون معتنقين الإسلام صافيًا نقيًا من أيّ شائبة. وعليه فإنّ العمل للتمكين هو عمل لأمّة ممكّنة في الأرض، ذات سلطان، تكون السيادة فيها لشرع الله سبحانه.

     ما سلف من كلام يسوقنا إلى سؤال في غاية الأهمّية، ألا وهو:

     هل التمكين هو غاية الغايات للإسلام والمسلمين في هذه الحياة الدنيا؟ أم هو طريقة لتحقيق الغاية؟

     هذا السؤال هو موضع نقاش، بل نزاع، بين كثير من المسلمين في هذا الزمان. ومعظم من يجيبون عليه يجيبون الجواب الخطأ. إذ يتوهّم كثير من المسلمين أنّ إقامة دولة للإسلام هي ذروة نهوض المسلمين، وأنّها نتيجة لتطبيق الإسلام وقيام الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. فكثير من المسلمين المخلصين المحبّين لدينهم يقولون: علينا أن ننشئ المجتمع الإسلامي من أجل أن تقوم بعد ذلك الدولة الاسلامية. وهذا خلل كبير في الفهم، وهو يعني أنّهم لا يدركون معنى الدولة، ولا يدركون وظيفتها. فالدولة في الإسلام ليست هي منتهى الرقيّ ولا منتهى النهوض، وليست هي الغاية النهائية. وإنّما الدولة في الإسلام هي: الطريقة العملية لإقامة الإسلام ولإيجاد الحياة الإسلامية وإتمام المجتمع الإسلامي. ومعروف لدى جميع من يحملون فكرًا سياسيًا، من المسلمين وغير المسلمين، أنّ الدولة هي الكيان التنفيذي لمجموعة المفاهيم والقناعات والمقاييس التي تحملها أمّة من الأمم، فالدولة هي طريقتها للوصول إلى طريقة العيش التي تنشدها. فما لم توجد الدولة الإسلامية فلن يوجد المجتمع الإسلامي، ولن توجد الحياة الإسلامية. فما يتوهّمه كثير من الناس من أنّ وجود الدولة الإسلامية أو وجود الخلافة هو منتهى مطاف النهوض والرقيّ في الأمّة بعد أن تكون قد طبقت كلّ الإسلام فهذا لا يعرف حقيقةً معنى تطبيق الإسلام ومعنى الدولة الإسلامية، إذ لا يمكن للإسلام أن يطبّق دون دولته، ولا يمكن لأنظمة الإسلام أن تكون حيّة على أرض الواقع إلّا بأن يكون لها دولة. لذلك جعل الله سبحانه وتعالى التمكين في الأرض طريقة لإيجاد الحياة الاسلامية ولتطبيق الشرع وللتوصّل إلى الأمن. وعليه فإنّ من يقتصر في حمل الدعوة الإسلامية على مجرّد الوعظ والإرشاد وما يشبه التبشير عند النصارى، دون أن يلتفت إلى كيفيّة العمل الجادّ لإقامة الدولة الإسلامية، فهذا من حيث يدري أو لا يدري ليس عاملًا لإقامة الإسلام، وإنّما هو يحمل الدعوة إلى الناس ليلتزموا الإسلام فرديًا فقط. ولا يستطيع فرد أن يطبّق الإسلام بكامله، بل لا يستطيع جميع الأفراد أن يطبّقوا الإسلام دون دولة، لأنّ الإسلام لم يأت للأفراد فقط، وإنّما الاسلام أتى نظامًا للحياة، ولا بدّ أن تقوم على تنفيذه دولة. فالدولة هي الكيان التنفيذي لأيّ حضارة وأيّ ثقافة سياسية، إنّها الكيان التنفيذي لطريقة العيش التي يريد الناس أن يعيشوا عليها.

إذن قضية التمكين في الأرض تعني أن يكون هناك للأمّة الإسلامية دولة تجسّد  هذا التمكين، دولة للأمّة لا أيّ دولة. فلو تخيّلنا مثلا أنّ المسلمين أقاموا دولة قُطرية صغيرة ليس لها من القوّة ما يجعلها عصيّة على الأعداء. فهذه الدولة لن تكون مُمِكّنة للإسلام والمسلمين في الأرض. فالدولة الممكّنة للإسلام والمسلمين هي التي سمّاها الإسلام: «دار الإسلام». ودار الإسلام هي التي تُجسّد بتعريفها وواقعها الشرعي التمكين للإسلام والمسلمين. إذ إنّ تعريف دار الاسلام أنّها «الدار التي يطبّق فيها الإسلام، ويكون أمانها بأمان المسلمين». فإن فُقد أحد هذين الشرطين؛ إقامة الإسلام كاملًا وأن يكون أمان الدولة بأمان المسلمين وحدهم داخليًا وخارجيًا فإنّها لا تكون دار اسلام ولا تجسّد تمكين الإسلام والمسلمين، فلا تمكين حيث ثمّة سيطرة وهيمنة للكافر، لقوله تعالى: (وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا).

وبعد أن تقوم دار للإسلام لا يجوز للمسلمين أن يكتفوا بتطبيق الإسلام في بلادهم، وإنّما يجب أن تكون للدولة سياسة خارجية تقوم على أساس حمل الإسلام رسالة إلى العالم. فحمل الإسلام إلى العالم هو التنفيذ العملي لقوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ).

     بقيت مسألة هي أيضًا محلّ جدل والتباس لدى بعض المسلمين اليوم، وهي: هل الاستخلاف في الأرض مترتّب على سعي المسلمين للتمكين، فهو يندرج في تكليف الله للعباد؟ أم هو محض منّة من الله تعالى؟ يقول البعض إنّ التمكّن ليس من تكاليف الله تعالى للمؤمنين، وإنّما هو محض منّة من الله تعالى، فنحن علينا بالإيمان وبالعمل الصالح بعمومه دون أن نسعى لتوّلي السلطان والحكم، فإن تجلّى فينا الإيمان والعمل الصالح مَنَّ الله سبحانه وتعالى علينا من عنده بالاستخلاف والتمكين في الأرض. وهذا الكلام دون شكّ خالٍ من أيّ دليل شرعي، بل هو منافٍ للأدلّة الشرعية. إذ إنّ مؤدّاه أنّ المسلمين ليسوا مكلّفين بأن يسعوا إلى النصر، بينما يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ). فهو سبحانه أمر بالإعداد للقتال، وهو لا ينصر المؤمنين إن لم يعدّوا للقتال، بل إنّه سبحانه ينذرهم بالتهلكة إن أهملوا الإعداد، قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ). فهذا يعني أنّهم إن لم يُعدّوا للقتال فإنّه سبحانه لن ينصرهم، بل أكثر من ذلك فإنّهم يُلقون بأيديهم إلى التهلكة. فالله تعالى نسب لنفسه النصر، ولكنّ هذا لا يعني أنّ النصر يأتي دون سعي من عباده المؤمنين إليه. وإذا عدنا إلى سيرة النبيّ J منذ أن بُعث إلى أن أقام دولته لم ينتظر أن تأتي الدولة إليه منّة من الله، وإنّما كان يقصد الناس والقبائل ويسألهم: كيف القوّة والمنعة فيكم؟ ويطلب منهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه، لأنّه يبحث عن سلطان يقام في الأرض، ويبحث عمّن ينصره من أجل أن يبلّغ رسالة ربّه، ومن أجل أن يقيم للإسلام دولة. ولذلك حين أعطاه أهلُ المدينة قيادتهم شرّفهم الله تعالى بتسميتهم الأنصار، لأنّهم نصروه ونصروا الإسلام، فقامت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى دولة المدينة بناء على أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته رضي الله عنهم بالأسباب التي تُفضي إلى هذا التمكين.

 نعم، قد يتحرّى العاملون الأخذ بأسباب التمكين ولا يصلون إليه، لأنّ عناصره لم تكتمل لديهم، ولأنّ بعض هذه العناصر ليست طوع أيمانهم أصلًا. وهذا ما حصل مع أنبياء سابقين. ولكن إن لم يأخذوا بالأسباب فمحتّم أنّ التمكين لن يحصل، وأنّ الاستخلاف لن يحصل، فلا استخلاف ولا تمكين في الأرض دون العمل له ودون الأخذ بأسبابه. فبعد الأخذ بالأسباب قد تتحقّق غايتهم وقد لا تتحقّق، فهذا أمر في علم الغيب. إلّا أنّ هذه الأمّة موعودة بالاستخلاف بنصّ كتاب الله، بقوله تعالى المارّ آنفًا: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ ) وبقوله:(هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٣٢)، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى أنّ هذا الدين سيظهر على كلّ الأديان، وهذا الظهور على كلّ الأديان لمّا يحصل، فقد ظهر الإسلام على رقعة عريضة من الأرض، ولكن لمّا يُمَكَّن في كلّ الأرض، فهذا الوعد ما زال منتَظرًا، ففي صحيح مسلم عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). ولكن لا يمكن أن تصل الأمّة إلى هذا التمكين ما لم تتحقّق فيها أسباب هذا التمكين، ولا يمكن أن تتحقّق فيها هذه الأسباب دون سعي منها، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ٧).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *