العدد 468 -

السنة التاسعة و الثلاثون ، محرم 1447هـ الموافق تموز 2025م

ظليل الملائكة

 راسم ابو مأمون خاطر

هو الصحابي عبد الله بن حرام الأنصاري – رضي الله عنه -، والد جابر رضي الله عنهما وبه كان يُكَنَّى، وهو أحد النُقباء الذين اختارهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ بيعة العقبة الثانية، قال عنه الذهبي في «سِيَر أعلام النبلاء»: «الأنصاري السلمي، أبو جابر ، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً واستشهد يوم أحد». وقال ابن حجر في «الإصابة في تمييز الصحابة»: «عبد اللَّه بن عمرو بن حرام بن ثعلب بن حرام الأنصاريّ الخزرجيّ السّلمي، والد جابر بن عبد اللَّه الصّحابي المشهور، معدود في أهل العقبة وبدر، وكان من النقباء، واستُشْهِد بأحُد».

عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، كان عبد الله بن عمرو بن حرام، أبو جابر بن عبد الله أحد هؤلاء الأنصار والذين عاهدوه على أن ينصروه في حرب الأحمر والأسود، وعلى أن يدينون له بالسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن يؤثروه على أنفسهم، وعلى أن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا كلمة الحق أينما كانوا، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم.

ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء، كان عبد الله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا هو والبراء بن معروف عن قبيلة بني سلمة .

ومنذ أن رجع عبد الله بن حرام رضي الله عنه من بيعة العقبة الثانية إلى المدينة المنورة وضع نفسَه وأهله وماله في خدمة الإسلام، وما أن شُرع الجهاد حتى كان في طليعة المجاهدين الذين يرجون ثواب الله والدار الآخرة، فشارك النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وكان من بين المسلمين المقاتلين فيها، الذين قاتلوا ببسالة، وأبلو فيها بلاء حسنا حتى كان لهم النصر والظفر.

كان عبد الله ابن عمرو بن حرام مثالاً للمسلم العابد الزاهد الذي تفانى في خدمة الإسلام والمسلمين ووهب حياته للجهاد من أجل الدعوة،  وقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق إيمانه وحسن إسلامه، ودعا له في حديث رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في آخره: (جَزَى اللَّهُ الأَنْصَارَ عَنَّا خَيْرًا، وَلَا سِيَّمَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ)

وفي غزوة أحد وهي من الغزوات الهامة الحافلة بالمواقف والدروس والعبر، وقعت أحداثها في الخامس عشر من شهر شوَّال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية، ضرب فيها الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في البطولة والتضحية، أثبتوا فيها صدق وقوة إيمانهم، وعظيم بذلهم في سبيل الله عز وجل، ويقينهم بما أعد الله تعالى للشهداء في الجنة، ومِن هؤلاء الكرام: عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، الذي خصَّه الله تعالى بفضيلة لم يدركها أحَدٌ غيره، وهي تكليمه له بعد موته واستشهاده في أحُد .

تراءى لعبدالله- رضي الله عنه- مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو.. وغمره احساس صادق بأنه لن يعود، فكاد قلبه يطير من الفرح بمجرد أن علم الصحابي الجليل بعزم النبي -صلى صلى الله عليه وسلم- على قتال المشركين في غزوة أحد وبدأ يعد العدة ويحرض المسلمين على القتال، أقبل على الغزوة واستعد لها وفي قلبه يقيناً أنه سيقتل فيها، وفرحاً غامراً بالشهادة في سبيل الله التي ينتظرها ويرجوها.

وتذكر كتب السير والأحاديث في هذا الموقف أن عبد الله استدعى ابنه جابراً -رضي الله عنهما- واوصاه وصية مودع يستقبل حتفه، وقد ورد ذلك في صحيح البخاري حيث يروي جابر بن عبد الله عن أبيه قائلاً : (لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عليَّ دَيْناً، فاقض، واستوص بأخواتك خيرا، فأصبحنا، فكان أول قتيل).

أطلق النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لقب ظليل الملائكة على الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه، ففي غزوة أحد استشهد ما يقارب سبعون صحابياً، بذلوا دماءهم وأرواحهم في سبيل الله، وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن حرام، الذي كلمه الله -عزّ وجلّ- بعد موته، وقد سمي بظليل الملائكة لأنّه عند استشهاده قد أظلته الملائكة في جنازته، فلم يتغير جسده بعد دفنه، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال ما حدث عند استشهاد والده فقال: (جِيءَ بأَبِي يَومَ أُحُدٍ قدْ مُثِّلَ به، حتَّى وُضِعَ بيْنَ يَدَيْ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقدْ سُجِّيَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عنْه، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عنْه، فَنَهَانِي قَوْمِي، فأمَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقالَ: مَن هذِه؟ فَقالوا: ابْنَةُ عَمْرٍو – أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو – قالَ: فَلِمَ تَبْكِي؟ أَوْ لا تَبْكِي، فَما زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا حتَّى رُفِعَ) قال النووي: فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رُفِع) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولِمَ تبكي) معناه سواء بكت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله، أي فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره، فلا ينبغي البكاء على مثل هذا”.

فعن جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنه قال: (لمَّا قُتِلَ عبدُ الله بن حرام يوم أُحُد، لقيَني رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر! ما لي أراك مُنكَسراً؟ قال: قلت: يا رسول اللّه! استُشْهِد أبي وترك عيالاً ودَيْناً، قال: أفلا أبشِّرُك بما لقي اللهُ به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلَّا من وراء حجاب، وَكَلَّم أباك كِفاحاً (مباشرة بعد موته ليس بينهما واسطة)، فقال: يا عبدي، تَمنَّ عليَّ (سَلْنِي) أُعْطِك، قال: يا ربّ! تُحييني فأُقْتل فيك ثانية، فقال الرَّبّ سبحانه: إنَّهُ سبق منِي أنهم إليها لا يُرجعون، قال: يا ربِّ! فأبلِغْ مَن ورائي، قال: فأنزل الله تعالى :وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ١٦٩آل عمران:169. رواه ابن حبان والترمذي وحسنه الألباني.

قال العيني: »وفيه: فضيلة عظيمة لم تسمع لغيره ـ أي لغير عبد الله بن حرام ـ) من الشهداء في دار الدنيا.«

الجدير بالذكر أن عبد الله بن عمرو بن حرام كان صهر الصحابي الجليل عمرو بن الجموح واستشهد الاثنان في غزوة أحد.. ودفنا معا في نفس القبر بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم حيث نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: » ادفنوا عبد الله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين، متصافين . «

وبعد مرور ست وأربعين سنة على دفنه، نزل سيل شديد غطى أرض القبور، فسارع المسلمون إلى نقل جثث الشهداء، وكان جابر لا يزال حياً، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبد الله بن عمرو ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح، فوجدهما في قبرهما نائمين كأنهما ماتا بالأمس لم يتغيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *