أحمد الأمين
تناولنا في المطلبين السابقين الفكر المالي الاشتراكي والرأسمالي وبيّنّا الأسس التي يقوم عليها كل منهما، وسنتحدث في هذا المطلب عن الفكر المالي الإسلامي والأسس التي يقوم عليها.
المطلب الثالث
يعد الإسلام الدين الوحيد الذي وضع المعالجات التي تشمل كل جوانب الحياة الإنسانية، وليس المادية فقط. فهو ينظم الجانب الروحي والجانب الخلقي والجانب الاجتماعي والسياسي والجانب الاقتصادي بشكل متكامل ومترابط بما يكفل للمجتمع الذي يسلك المنهج الإسلامي عقيدة وسلوكا السعادة والطمأنينة في الحياة وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المطلوب، لقد وضع الإسلام في الجانب الاقتصادي قواعد وكفل حقوقا، وقرنها بضوابط وحدود. فقد كفل لكل فرد بعينه إشباع الحاجات التي لا بد للإنسان من حيث كونه إنسانا أن يشبعها، وهي المأكل والملبس والمسكن. كما حث الفرد على التمتع بالطيبات والأخذ من زينة الدنيا بقدر ما يرغب، فهو يضمن حق العيش لكل فرد بعينه. وأتاح له الرفاهية في الحياة، ولكن في نفس الوقت حدد الإسلام لكسب المال لهذا الفرد لإشباع حاجاته طرقا معينة، فمثلا حرّم الإسلام إنتاج الخمر واستهلاكها على كل مسلم، وحرم أكل الربا والتعامل به على كل من يعيش في ظل نطاق دولة الإسلام. ويتميز النظام الاقتصادي في الإسلام بأنه يسير النشاط الاقتصادي كله بأوامر الله ونواهيه، فجميع الأعمال الاقتصادية تكون حسب ما تتيحه الأحكام الشرعية بوصفه ديناً، يتقيد بها المسلمون وينفذونها بدافع تقوى الله عز وجل.
أما أسس النظام الاقتصادي في الإسلام فتتمثل بما يأتي:
١-المِلكية في الإسلام: إن الملكية في الإسلام هي لله عز وجل، من حيث هو مالك الملك من جهة، كقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ)()، ومن حيث إنه قد نص على أنه مالك للمال من جهة أخرى، كقوله تعالى: (وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ)().فالمال لله وحده، إلا أن الله سبحانه وتعالى استخلف بني الإنسان على المال وأمدهم به، فجعل لهم حق ملكيته، كقوله تعالى: (ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧)()فاستخلاف الناس جميعاً في ملكيته جاء بالاستخلاف العام، وأفاد وجود حق الملكية. فليس لهم حق الملكية الفعلية، وإنما هم مستخلفون في المال. فاستخلاف الفرد المعين في المال جاء بالإذن من الله عز وجل الذي أجاز له أن يتملكه بسبب من أسباب التملك التي حددتها الشريعة الإسلامية، كوضع اليد على الأرض الموات وإحيائها. فقد روى أبو داود عن سمرة عن النبي أنه قال: (من أحاطَ حائطاً على أرضٍ فهي له)()). فالملكية في النظام الإسلامي ليست مطلقة، وإنما هي استخلاف، وهي مرتبطة بضوابط وتوجيهات الشريعة. () والملكية في الشريعة الإسلامية أنواع، فثمة ملكية عامة للأمة كلها، لا يحتكرها ولا يستبد بها نفر قليل من الأفراد، فيضار المجتمع من جراء ذلك. قال :(المسلمون شركاءٌ في ثلاث الكلأُ والماءُ والنارُ)().
وثمة ملكية للدولة، فمثلا كل من مات من المسلمين ولا وارث له فماله لبيت المال، وما يجبى من خراج وجزية إنما هو لبيت المال، وللدولة أن تضع المال الذي هو ملكها حيث تشاء بحسب الأحكام الشرعية.
والنوع الثالث من الملكية هو الملكية الفردية، إذ إن لكل فرد أن يمتلك المال بسبب من أسباب التملك التي حددتها الشريعة الإسلامية. وقد حرمت الشريعة الإسلامية كسب الملكية بوسائل غير مشروعة، كالاحتيال أو الغش أو الاحتكار ()، حيث قال سبحانه وتعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ . ())
وقد جعلت الشريعة الإسلامية صيانة الملكية الفردية واجبا على الدولة، فأوجبت احترامها وعدم الاعتداء عليها، ووضعت عقوبات زاجرة لكل من يعبث بهذا الحق بأي طريقة من الطرق غير المشروعة كالنصب أو السرقة مثلاً.
2- التصرف بالملكية: بما أن الإنسان مستخلف بالمال وليس هو المالك الأصيل لأن الملك لله عز وجل فلهذا كان من حق المالك الأصيل أن يحدد للإنسان المستخلف مهمته بالتصرف بالملكية والمال تحصيلاً وإنفاقاً، أي إن له الحق في تحديد أسلوب التحصيل وطريقته ومجالاته وكذلك أسلوب الإنفاق وطريقته ومجالاته على شكل يتفق مع الغاية من استخلاف الإنسان بالملكية().ولهذا قال سبحانه وتعالى (:وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا ٢)()، وقال سبحانه وتعالى: (وَفِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ١٩ ())ولهذا كانت حيازة الإنسان للمال أشبه بوظيفة يقوم بها للانتفاع بالمال وتنميته منها بالامتلاك لأن الفرد حين يملك المال إنما يملكه للانتفاع به ولإشباع حاجاته، ولكنه مقيد فيه بحدود الشرع، وليس مطلق التصرف فيه. ومن هذه القيود مثلا ضرورة عدم استغلال الإنسان لغيره بسبب قوة الاستخلاف، كما تجب مراعاة مصلحة المجتمع والأفراد عند إنفاق المال، وكذلك عدم كنزه دون استثماره، لان الاستثمار فيه مصلحة للمجتمع. ومن القيود أيضا تحريم الاحتكار وتحريم الربا. ويحق للفرد بعد مراعاة القيود الشرعية أن يتصرف بماله بكل أنواع التصرف التي أجازتها الشريعة، كالبيع والرهن والهبة وغير ذلك من أنواع التصرفات المباحة.
3- توزيع الثروات والتوازن الاقتصادي في الإسلام: لقد أوجب الإسلام على الدولة توزيع الثرواتِ والدخولِ بما يتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية، ليتحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع، حتى لا يشقى أفراد المجتمع بسبب الأزمات الاقتصادية، وبما يكفل لهم عيشاً مرضياً، وذلك بتوزيع الثروات لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً. فقد أوجب الإسلام تداول المال بين جميع أفراد المجتمع، ومنع حصر تداوله بين فئة من الناس، حيث قال سبحانه وتعالى: ( ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ )()، فإذا حصل تفاوت كبير وفاحش بين أفراد المجتمع في توفير الحاجات وتوزيع الثروات وجب على الدولة العمل على إيجاد التوازن وإنهاء هذا التفاوت وإيجاد التقارب في توفير الحاجات. فالإسلام قد ضمن حسن التوزيع في تحديد كيفية الملكية وكيفية التصرف بها، وفي إعطاء من قصرت به مواهبه من فقراء ومعوزين بما يضمن لهم تقارباً مع غيرهم من أفراد المجتمع، فأوجب الإسلام أن لا يكون في المجتمع الإسلامي فقير أو مسكين، وعلى المجتمع والحاكم مسؤولية في أن يعيش الأفراد بما يكفي لتأمين نفقات معيشتهم، قال سبحانه وتعالى: (وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ ٢٤ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ ().)
والإسلام يعترف باختلاف قدرات الأفراد ومواهبهم، وبالتالي اختلاف الدخول والثروات()، قال سبحانه وتعالى (:وَهُوَ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ١٦٥)()، وقال سبحانه وتعالى: (وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ ٧١ ().)أي إن الذّين فضلهم الله تعالى بسعة الرزق لا يرزقون من دونهم، وإنما يمدهم الله جميعاً من فيض رحمته. وعلى ذلك فكل الناس سواءً، وكلهم عباد الله، وما بينهم تكاليف يحمل منها كل منهم بقدر ما هيأ الله له من قدرة().وهذا التفاوت في القدرات والمواهب يجب أن يكون منضبطاً بالقدر الذي يحفز العامل على العمل ويحقق التعاون لا الصراع. فالصراع بين طبقة ثرية مترفة تستأثر بكل الخيرات وطبقة محرومة من شأنه أن يؤدي إلى التحاسد والتباغض وإثارة الأحقاد في المجتمع، بالإضافة إلى الإخلال بالتوازن الاقتصادي، حيث قال سبحانه وتعالى(:وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَاب)()، وكما قال الرسول :(لا يؤمن أحدُكمُ حتى يحبَ لأخيهِ ما يحبُ لنفسهِ )().
وأما أساسيات النظام المالي في الإسلام: فقد وضع الإسلام من خلال نظامه الاقتصادي أسس المالية العامة التي تهدف إلى تحقيق مجتمع إسلامي يشيع فيه التضامن المجتمعي ويسوده الرخاء.
ولم يكن في عهد الرسول بمكة المكرمة نظام مالي محدد من إيرادات ونفقات وبيت للمال، وإنما كان الصحابة رضوان الله عليهم يجودون من أموالهم للصرف على الفقراء من المسلمين. وعندما هاجر الرسول أخذ الوضع يتجه نحو تشكيل دولة المدينة، وبدأت تتحدد معالم الدولة الإسلامية بعد توالي نزول الآيات القرآنية، والتي أوجبت على المسلمين الزكاة وحددت طرق إنفاقها، كما حددت صورا أخرى من الإيرادات وطرق إنفاقها، وتتمثل إيرادات الدولة الإسلامية بالزكاة والخراج والعشور والفيء والغنائم والجزية والركاز.
1- الزكاة: هي ركن من أركان الإسلام، وفرض على كل مسلم توفرت فيه شروط أدائها، وهي الحصة المقررة من المال التي فرضها الله سبحانه وتعالى للمستحقين. وقد فرضت في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة، فقال سبحانه وتعالى: (خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣)()، وكذلك قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ١١٠ ().) والأصل أن يجمعها ولي الأمر أو من ينوب عنه. وتختلف الشروط الواجب توفرها في الشخص حتى تجب عليه الزكاة باختلاف أنواع الزكاة، والتي هي زكاة النعم والماشية الإبل والبقر والجاموس والغنم والماعز وزكاة الزروع وزكاة النقود وزكاة الذهب والفضة ()، ولا تسقط الزكاة عن المسلم إذا توفرت شروطها من نصاب وحلول للحول. ولا تجب على غير المسلم. وهي نوع خاص من المال يجب أن يصرف في مصارفه، سواء أكانت هناك حاجة أم لم تكن، وهي محددة المقدار فلا تزيد ولا تنقص. أما مصارف الزكاة ووجوه إنفاقها فهي محددة أيضاً بأصناف، فلا تصرف إلا للأصناف الثمانية التي ذكرها الله عز وجل في القرآن الكريم في سورة التوبة بقوله سبحانه وتعالى: (۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٠)()، وعلى هذا فالزكاة ونصابها فريضة ثابتة لا تتغير نسبتها إلى الأشياء المزكاة بتغير مستويات الدخول، وهذه النسبة لا يمكن إحداث تغير أو تعديل فيها، لأنها مفروضة بأحكام واضحة ومحددة، عبادةً إسلامية وركنا أساسيا من أركان الدين().
2- الجزية: هي ما يؤخذ من أهل الذمة. وفرضت الجزية في القرآن الكريم بقوله تعالى: (قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ٢٩)()، وهي توضع على الأشخاص لا على الأموال، فتؤخذ من كل شخص ذمي يعيش في ظل دولة الإسلام، وتسقط عنهم إذا دخلوا الإسلام، ولا تؤخذ من العاجز، ولا تؤخذ إلا من الرجال، فلا تجب على النساء ولا الصبيان ولا على مجنون، وليس لها مقدار محدد، فهي متروكة لرأي الإمام واجتهاده.
3- الخراج: هو حق يوضع على رقبة الأرض التي غنمت من الكفار حرباً أو صلحاً، فهو يؤخذ عن الأراضي التي فتحت عنوة ثم جُعلت رقبتها ملكا للدولة، وعن الأراضي التي تخلى عنها أصحابها في فترة الفتوحات فانتقلت إلى المسلمين. ويؤخذ كذلك عن الأراضي التي حققت للمسلمين صلحاً، فهي أما أن تكون ملكاً للدولة وتمتلك رقبتها، أو تبقى ملكاً لأصحابها وإنما تنتقل ملكيتها بحسب شروط الصلح إلى المسلمين فتصبح رقبتها لهم، ويؤخذ بالاعتبار عند تحديد الخراج خصوبة الأرض وجودتها وأنواع المحاصيل وقيمتها وطرق ري الأرض وسقيها. وقد بين الفقهاء المسلمون نوعين من الخراج؛ هما خراج الوظيفة وهو مقدار معين محدد على مساحة محددة من الأراضي، وقد يكون عيناً أو نقداً أو الاثنين معاً ويؤدى سنوياً مقابل الانتفاع بالأرض، وخراج مقاسمة ومعناه تقاسم الدولة الأفراد الذين تخضع الأراضي التي تحت أيديهم للخراج، تُقاسِمهم في المحصول الذي تنتجه أراضيهم بنسب معينة كالخمس مثلاً أو الربع أو الثلث. ويكون الخراج مرة واحدة في السنة ويسقط في حالة حدوث كوارث أو هلاك المحاصيل الزراعية أو في حالات الجفاف()
.4- العشور التجارية: هي نسبة من الأموال مفروضة على أموال رعايا دار الحرب المعدة للتجارة والمنقولة من دار الحرب إلى دار الإسلام وبالعكس()، وتقوم على أساس المعاملة بالمثل فيزيد المقدار أو ينقص على هذا الأساس.
5- الفيء والغنائم: أما الفيء فهو الأموال المنقولة التي حُصّلت من الأعداء دون قتال، قال سبحانه وتعالى: (مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ ().)وأما الغنائم فهي ما حصل عليه المسلمون من طريق الحرب، وتقسّم إلى خمسة أخماس، وتوزع حسبما فرض في القران الكريم بقوله تعالى : (۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٤١)()، والفيء والغنيمة متفقان في أن أصل المال مأخوذ من الكفار، ويصرفان بطريق الخمس، ويختلفان في أن الفيء مأخوذ بلا قتال ومال الغنيمة مأخوذ بالقتال().
6- الرِكاز: وهو ما وجد مدفونا من ثروة معدنية أو كنوز على اختلاف أنواعها، وفيه الخمس لعموم قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بَِٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ٢٦٧)()، واستناداً إلى قول الرسول : (وفي الرِكاز الخمس)() .
وأما النفقات في النظام المالي الإسلامي: فقد بين القرآن الكريم كيفية التصرف في حصيلة الزكاة وبقية الإيرادات الأخرى، مثل خمس الفيء والغنيمة. وكان الرسول ينفق ما يرد من أموال في المصلحة العامة للمسلمين، وكان يقسم المال ليومه فلا يبيت وعنده شيء من المال. وفي عهد الخلفاء الراشدين كثرت الإيرادات وتنوعت، فاجتهدوا في كيفية التصرف ببعضها مما لا يوجد فيه نص من كتاب الله ولا سنة رسوله فأقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد استشارة الصحابة العطاء لكل مسلم، بل وفرض لكل طفلٍ يولد في الإسلام.
وكان من اتساع أعمال الدولة الإسلامية وتشعبها زيادة النفقات اللازمة لتسيير أمور الدولة وإدارتها في كافة النواحي، ففرض رواتب للقضاة والجنود والولاة وغير ذلك مما يلزم لإدارة الدولة ونصرة الدين وإعلاء شأنه بالجهاد وتجهيز الجيوش.
أما نفقات أموال الزكاة فهي محددة بالأصناف الثمانية حصراً في القرآن الكريم، وكذلك بالنسبة للفيء والغنيمة فأصنافها ونسبتها محددة في القرآن الكريم أيضاً. فيتضح من هذا أن النفقات في النظام المالي في الإسلام قسمان؛ قسمٌ محدد في القرآن الكريم والسنة النبوية كما في الزكاة وخمس الغنيمة والفيء والركاز، وقسم ثان ترك لاجتهاد الولاة والحكام ليواجهوا الظروف المتغيرة بما يكفل لرعايا الدولة الأمن والاستقرار ونشر دعوة الإسلام().
فالسلطة المركزية المتمثلة بالخليفة مسؤولة تماماً عن تأمين نفقات المسلمين جميعاً، ومسؤولة كذلك عن الأمن العام للمجتمع الإسلامي ونشر الدعوة والدفاع عن الإسلام وتحقيق الرفاهية للمجتمع بأكبر قدر مستطاع بما لا يخالف قواعد الإسلام().
وأما خصائص النظام المالي الإسلامي مقارنة بالنظام المالي الرأسمالي والنظام المالي الاشتراكي فقد تمثلت بما يأتي:()
1- ينظر الإسلام إلى المال على أنه وسيلة لإشباع الحاجات، وليس غاية لذات المال، ولا للتفاخر به، ولا للسيطرة والتّجبر. وحث الأفراد على طلب الرزق الحلال والسعي لكسبه بالطرق المشروعة للكسب. وألزم الدولة بتوفير الحاجات للأمة وتوزيع الثروات بشكل عادل والقضاء على الفقر باعتبار أن على الدولة حق الرعاية.
2- الإسلام حدد طرق اكتساب الملكية، وكيفية توزيعها لمنع تركيزها في جانب وحرمان جانب آخر منها. كما يؤكد على الملكية العامة لأنواع أساسية من الثروات الطبيعية، وللمرافق العامة والضروريات، ليتيحها للمسلمين كافة بدون استئثار أفراد بها. فهو لا يلغي الملكية الفردية لأن هذا يتعارض مع فطرة الإنسان كما في الاشتراكية، ولا يجعل كل الملكية بأيدي قلة من الأفراد يتحكمون بمصير المجتمع كما في الرأسمالية.
3- ينظر الفكر الرٍأسمالي إلى الفرد بوصفه أساس المجتمع، وأنه حر في آرائه وفي تصرفاته، فهو يسعى لتحقيق أكبر إشباع ممكن بأقل قدر من طاقاته. وفي الاشتراكية ينظر إلى المجتمع أولاً ولا ينظر إلى الفرد إلا من خلال مصلحة المجتمع. أما المجتمع الإسلامي فحقوق الفرد فيه مكفولة باعتباره إنسانا ينشد إشباع الحاجات المعنوية فوق الحاجات المادية، وهو مكرم باعتباره إنسانا، وجميع الأفراد في المجتمع على السواء أصحاب حقوق وواجبات دون تمييز طبقي بينهم.
4- الإسلام يحرِم الربا بكل أشكاله وصوره، كما يمنع الاكتناز والسرف. وألزم أصحاب رؤوس الأموال إنفاقها أو توظيفها وتنميتها بوسائل أجازها، ومنع استخدامها واستغلالها بوسائل حرمها كالربا والغش والاحتكار والعقود الفاسدة والاتجار بالمحظورات والممنوعات كالخمر وغيرها. بينما تكون الغاية في الرأسمالية هي الربح بغض النظر عن الوسيلة، فلا يوجد ما يمنع الفوائد الربوية مثلاً، بل أن التعامل بها له أساس قانوني في الفكر الرأسمالي قائم على فكرة حرية التعاقد وحرية التصرف بالمال، بل ويرونها حاجة لنمو الاقتصاد.
5- اعتمد النظام المالي في الإسلام على أدوات المالية العامة من إيرادات ونفقات، ولكن هذه الأدوات تختلف عن الأدوات في النظم المالية الأخرى من حيث أنواع الإيرادات ومن حيث فارضها وموجبها ومن حيث طرق توزيعها.
6- يوجد في الإسلام بيت المال، ووارداته تُحصّل بحسب الأحكام الشرعية المنصوص عليها، وتُصرف بحسب الأحكام الشرعية أيضاً، وهي كلها أحكام دائمة لا تتغير ولا تتبدل، مثل أحكام الزكاة، فأصنافها ونسبها محددة بشكل قطعي إلى ما شاء الله. وأما ما لا يوجد فيه نص شرعي فمتروك لاجتهاد الخليفة أو ولي الأمر المسلم، ولهذا نجد أن بعض التراتيب المالية تتغير بتغير الحكام، لأن كلا منهم يسعى إلى تحقيق سياساته حسب اجتهاده بما يراه مناسباً لرعاية شؤون الأمة ووفقاً للأحكام الشرعية.
يرى البعض()أن تطبيق النظام الاقتصادي في الإسلام لا يعني يقتضي تطبيق سائر الأنظمة التي جاء بها الإسلام، بمعنى أنه يمكن تطبيق التنظيمات الاقتصادية في إطار ما نص عليه الإسلام في الجانب الاقتصادي من حياة المجتمع بصرف النظر عما جاء به في تنظيم الجوانب الأخرى في المجتمع، فإذا قبل المجتمع بتحريم الربا مثلاً فإنه سيُمنع دونما حاجة لتحريم الخمر! وهذا الرأي مجانب للصواب وحيد عن الحق ولا يمكن الأخذ والقبول به، لأن الشريعة الإسلامية كلٌ متناسقٌ، يلزم العمل به جميعاً، فالشريعة الإسلامية منهاج شامل متكامل، يجب أن يؤخذ وينفذ كله، فلا يجوز الأخذ بالنظام المالي والاقتصادي الإسلامي وترك النظام السياسي والاجتماعي أو ترك الجانب الروحي والخلقي، ذلك لأن السلوك الاقتصادي لأي مجتمع يرتبط مع أشكال السلوك الإنساني الأخرى.
كما أن النظام الاقتصادي كبقية النظم هو انعكاس لهوية الدولة، فلا يعقل أن تكون هوية الدولة رأسمالية ونظامها الاقتصادي إسلاميا، فعلى هذا لا يمكن تطبيق النظام المالي الإسلامي وترك باقي أنظمة الإسلام، فلا يعقل تحريم الربا في البورصات العالمية مثلاً وترك فرض الزكاة، ولهذا كان الرسول يقول لأصحابه الذين كان يرسلهم إلى المدن والقبائل دعاةً: (فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله … فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم)() فالإسلام يؤسس على العقيدة والنظرة إلى الكون والحياة الضوابط المنظمة للسلوك والعلاقات().