العدد 468 -

السنة التاسعة و الثلاثون ، محرم 1447هـ الموافق تموز 2025م

لوازم الفهم السياسي ورسم السياسات(٣): دور الخريطة في الفهم السياسي

لقمان حرزالله- فلسطين

لقد صح القول بأن السياسي الذي لا يعرف الخريطة لا يعرف السياسة؛ فالخريطة ومعرفتها أساسية في الفهم السياسي.

والمعلومات المتصلة بالخريطة لا تقتصر على معرفة موقع الدولة التي يتصل بها الحدث المعين موضوع البحث، وإنما يتعدى ذلك إلى فهم موقع الدولة في الخريطة، وطبيعة الجغرافيا المتعلقة بالدولة، وطبيعة حدودها، واتصالها بالمحيطات، واتصالها بالطبائع الجغرافية المهمة، وفهم الوضع الديمغرافي من حيث عدد السكان والكثافة السكانية وطبائع السكان وصفاتهم، وحيازتها على الطاقة والتكنولوجيا.

وتجدر ملاحظة أن هناك تقاطعا بين الميزات السياسية والميزات الإستراتيجية لموقع الدولة، حيث إن الميزات السياسية تفيد الدولة في اقتعاد موقع مهم دولياً، وتفيد المحلل بأن يفهم القضايا والأحداث السياسية المتعلقة بالدولة، بينما يفيد فهم الميزات الإستراتيجية لموقع الدولة على الخريطة في التحليل العسكري، وأن يكون موقف الدولة العسكري قوياً، والتقاطع حاصل من أن قوة الدولة سياسياً مرتبطة بقوتها العسكرية.

وفهم موقع الدولة يقتضي عدة أمور؛ منها طبيعة موقع الدولة إن كانت الدولة دولةً قارية أو دولة محيطية أو تشترك في الأمرين، حيث إن الدولة القارية هي الدولة التي يكون موقعها الجغرافي في اليابسة، وتكون حدودها محاطة باليابسة وليس لها منافذ على البحار، والدولة المحيطية هي الدولة التي تقع في المحيط وبالتالي تكون حدودها محاطة بمياه المحيط، وأما الدولة التي تشترك في الأمرين فهي الدولة التي تكون لها كتلة قارية، أي جزء كبير على اليابسة، ولها حدود مفتوحة على المحيطات أو البحار.

إن الدولة القارية تكون قوتها قوة قارية، أي إن قوتها متصلة بما لليابسة من نقاط قوة، من حيث التضاريس وطرق المواصلات والتجارة، والقوة البرية. والدولة المحيطية تكون قوتها قوة محيطية، وذلك من خلال انفتاحها على الطرق البحرية وقدرة الأساطيل على النقل والحرب، واتساع آفاق التجارة، وقدرتها الواسعة على الاتصال بالشعوب الأخرى. ولذلك فإن الدولة القارية تفتقد إلى القوة المحيطية، وتبقى قدرتها على اقتعاد موقع دولي مؤثر أقل من الدول المحيطية، وأما تلك الدول التي تحمل الصفتين بأن تكون لها كتلة قارية وكتلة محيطية، فإن قدرتها على اقتعاد موقع عالمي متقدم عالية. ومن الدول القارية تلك الدول التي توجد في مراكز القارات مثل أفغانستان وتشاد والنيجر وبوليفيا والباراغواي، ومثال الدول المحيطية بريطانيا وأستراليا واليابان والفلبين واندونيسيا، ومثال الدول التي تحمل الصفتين الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وتركيا والهند ومصر وليبيا والجزائر واليمن وبلاد الشام وإيران وباكستان وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والصين. أما روسيا فإن كتلتها القارية كبيرة، ولكنها متصلة بالمياه المتجمدة وبالتالي تكون استفادتها من الجانب المحيطي استفادة مكلفة جداً، ولذلك فإنها بذلت جهوداً هائلة عبر تاريخها لتصل إلى المياه الدافئة، وما زالت، وذلك لتأخذ البعد المحيطي.

إن موقع الدولة على الخريطة ما زال عاملاً حاسماً في وزن الدولة عالمياً، وذلك من خلال قدرتها على الاتصال الخارجي، أو وجودها على مفاصل الطرق المستخدمة للاتصال الدولي. فالدول المحيطية ليست كلها سواء، فتلك التي تتصل بالطبائع الجغرافية المهمة تكون أقدر على أخذ وزن عالٍ عالمياً، ومن الطبائع الجغرافية المهمة الجزر والمضائق والبرازخ والمواقع المطلة على خطوط النقل الدولي.

فالجزر لها أهمية عالية من عدة نواح؛ فإذا امتدت حدود دولة لتشمل أرخبيلاً من الجزر في منطقة مهمة، وسيطرت على البحر من حولها يكون لها وزن عالمي، ولذلك سعت اليابان إلى السيطرة على المحيط الهادئ، ولعل ضربها لميناء بيرل هاربر كان مدفوعا بالسيطرة على منطقة المحيط الهادي، فلو تم لها ذلك لاستطاعت أن تقتعد مكانة الدولة الأولى بسهولة. وإذا كانت الجزر ليست على خطوط التجارة يمكن النظر في موقعها إن كان مهماً للتأثير في الدول الأُخر، فيتم السيطرة عليها، واتخاذها قواعد عسكرية، مثل جزر سليمان في الشمال الشرقي لأستراليا، وجزر سقطرى جنوب اليمن ومقابل القرن الإفريقي. ويلحق بالجزر أشباه الجزر، مثل شبه جزيرة القرم.

والنقل الدولي البحري يتخذ طرقاً في أعالي المحيطات، وإذا اعترضته حالة تدفعه إلى تغيير طريقه لم يكن ذلك صعباً بالمطلق. إلا أن خطوط النقل حين تمر بالمضائق تكون المضائق طرقاً لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة، حيث تنحصر الطريق من خلال هذه المضائق في كثير من الأحيان. فسيطرة بريطانيا على جبل طارق وباب المندب جعل ذلك أداة من أدواتها في التأثير في العالم حين كانت الدولة الأولى فيه. ومضيق تايوان الذي تمر منه ٥٠٠،٠٠٠ رحلة تجارية بحرية سنويا (الشرق الأوسط، ٢١/ ٨/ ٢٠٢٣) جعل أمريكا تجعله منطقة للتأثير على الصين والاحتكاك بها من خلال استمالتها للنظام الحاكم في تايوان إلى جانبها. ومضيق البسفور جعل منطقة إسطنبول منطقة مؤثرة دولياً، مما دفع الحلفاء إلى إعطائه وضعاً خاصاً في اتفاقية لوزان التي نصت على نزع السلاح منه ومن الدردنيل وبحر مرمرة والجزر التركية وبعض الجزر اليونانية.

أما البرزخ فهو قطعة رفيعة من الأرض تصل بين وسطين مائيين، ووجود البرزخ في طرق النقل الدولية يجعله محطة رسو وانطلاق للسفن البحرية على طرفيه، أو يدفع الدولة القائمة عليه إلى حفر قناة تصل طرفي البرزخ. ومثال ذلك قناة السويس، وقناة بنما، وقناة كييل. وقد كان برزخ تيهوانتيبيك أقصر طريق بين خليج المكسيك والمحيط الهادئ قبل افتتاح قناة بنما.

إنه من الواضح أن الدول القارية إذا لم تحصل على منفذ للمحيطات فإنها تكون مضطرة إلى الدول الوسيطة التي تحتل موقعاً بين الدولة القارية والبحر. وحتى تلك الدول التي ليس لها وزن كبير على مستوى العالم تنظر إلى هذه المسألة بعين الاهتمام، فهذه إثيوبيا عقدت اتفاقية مع جمهورية أرض الصومال الانفصالية عام ٢٠٢٣ لتجعل لها منفذاً على البحر الأحمر.

وأما طبيعة الجغرافيا المتصلة بالدولة فإن فيها عدة نقاط أساسية، منها مساحة الدولة، وطبيعة حدودها، ومنها التضاريس الداخلية للدولة، ومنها البنية الطبيعية للدولة. فأما طبيعة حدود الدولة فإنه ليس هناك قانون معين لطبيعة الحدود من حيث اختيار الدولة لها أو فرضها على الدولة، فمن الطبيعي أن تكون الدولة قد حدت نفسها بحدود طبيعية كالسلاسل الجبلية أو مجاري الأنهار وشواطئ البحار، وقد تكون الحدود قد رسمت بناء على اتفاقيات مع الدول المحاذية أو نتيجة توسع أو انحسار بسبب الحروب، إلا أنه منذ نشأة النظام العالمي الجديد أخذت الحدود الوطنية طابع القداسة، وأصبحت مسألة التوسع مسألة ممقوتة عالمياً أو بحاجة إلى مبرر يعكس إرادة شعبية للضم أو الانفصال. ومن الجغرافية المتصلة بالحدود نوعية التجمعات السكانية على الحدود؛ فإن هناك حدوداً تحد دولتين وتفصل شعبين، بخلاف حدود أخرى تحد دولتين وتفصل شعباً واحداً إلى قسمين كل قسم يتبع دولة، وهذا يفيد بمعرفة استقرار الحدود ونفاذيتها بسبب اتصال الشعبين أو انفصالهما على جانبي الحدود. ومن الجغرافية المتصلة بالحدود معرفة الدول المحاذية للحدود، ومعرفة وضعها الدولي، ما يفتح الباب للمنافسة، أو المشاكسة أو الحرب أو التبعية أو اتخاذ المجال الحيوي.

أما البنية الطبيعية فإنها متعلقة بطبيعة البيئة في الدولة وما تحتويه جغرافية الدولة من موارد، فاحتواء الدولة على موارد مائية فائضة أمر حيوي لأمنها المائي، ونضوب الخزانات الجوفية المائية مؤشر خطر في الدولة. والثروة النفطية والمعدنية عامل مهم في الدول يساعدها على الاكتفاء الذاتي في الطاقة والصناعة، بل يجعل إمكانيتها في التأثير على غيرها من خلال هذه الموارد إمكانية عالية. واحتواؤها على الموارد البحرية المعدنية أو السمكية عامل مهم في ثروتها وأمنها الغذائي. وطبيعة التربة من حيث اتساع مساحة الأرض الخصبة وفي مقابلها اتساع الصحاري يؤثر في وضع الدولة من حيث القوة الحقيقية لاقتصادها، أو بتعبير آخر قدرتها الإنتاجية، بل يؤثر ذلك في طبائع الشعوب.

أما مساحة الدولة، فإن اتساع المساحة له قيمة من نواح عدة، أحدها ارتباط اتساع المساحة بالسكان، وآخر من خلال ارتباط المساحة بالثروات، وآخر من خلال العمق الإستراتيجي للدولة، وهذا الجانب الأخير مهم جداً خصوصاً في حال تعرضها للغزو، فإن المساحة الكبيرة تجعل سيطرة الغزاة بطيئة وربما تكون متعثرة، في حال كان غزوهم غزواً مساحيًّا وليس غزوا لمراكز السيطرة.

وأما التضاريس الداخلية، فإنها تجعل للدولة خطوطاً دفاعية داخلية طبيعية إذا احتوت على تضاريس وعرة، أو العكس إذا احتوت على تضاريس سهلة، كما يساعد تنوع التضاريس على تنوع الإنتاج في الدولة. فجبال الأورال في روسيا كانت عائقاً طبيعياً خلفه امتداد شاسع باتجاه الشرق يحمي روسيا من السقوط في حالة سيطرة الغزاة على الجزء الغربي منها، وهو الجزء الذي تقع فيه العاصمة الروسية موسكو. بخلاف السهل الأوروبي في أوروبا الشرقية الذي جعل دوله ممراً للحروب وموقعاً من مواقع الصراع الحضاري.

ومن المؤثر أن تقع الدول على المنافذ البرية، وطرق النقل، فإن موقع تركيا يجعلها خط الوصل البري بين آسيا وأوروبا، وبالتالي تمر منها طرق التجارة البرية بين آسيا وأوروبا، وكذلك الدول التي تقع على طريق الحرير القديم، وعلى خط مبادرة الحزام والطريق؛ الصين وكازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا، وذلك دفع باتجاه عمل مشاريع كبرى في هذه الطرق، لإقامة سكك الحديد والموانئ البرية وأنابيب نقل النفط والغاز.

وفي المقابل فإن عامل السكان عامل مهم جداً في قوة الدولة، والبحث فيه يأخذ عدة اتجاهات، أحدها عدد السكان ومعدل النمو، وآخر يربط السكان بالمساحة فتُدرس الكثافة السكانية، وآخر متعلق بناحية الكثافة العمرية للسكان، وآخر متعلق بطبائع الشعوب. فالدول التي ترنو إلى أخذ مكانة دولية تندفع باتجاه زيادة عدد السكان، وذلك من خلال دفع السكان باتجاه التكاثر وإعطاء الأعطيات لكل زيادة في العائلة، فتكثر المواليد في الدولة، أو من خلال تعويض النقص في السكان بالمهاجرين، فتزيد من الحوافز التي تدفع الناس إلى الهجرة إلى الدولة فتزيد عدد السكان، وفي ذلك دفع لعجلة الاقتصاد، وأمان من الانقراض، وقوة كامنة للذهاب باتجاه المشاريع الكبرى التي قد تقتضي خوض حروب مكلفة من حيث القوة البشرية، أكان من ناحية الإعداد أو من ناحية تحمل الخسائر. أما الكثافة السكانية فإنها مؤشر على قوة الدولة بشريا واقتصاديا، حيث إنك ترى كبريات المدن في العالم هي تلك المدن التي تتوفر فيها الفرص الاقتصادية الجمة أو الموارد الوفيرة أو الحركة المالية أو المراكز السياسية. والكثافة العمرية للسكان تدل على شيخوخة المجتمعات أو شبابها، فالمجتمعات الشابة فيها القدرة العالية على الإنتاج وعلى القتال، بخلاف المجتمعات الهرمة.

لقد أصحبت الطاقة والتكنولوجيا قضايا مفتاحية في قوة الدول، خصوصاً تلك التي تأخذ -أو تريد أن تأخذ- موقعاً دولياً مرموقاً، وإن الطاقة والتكنولوجيا أمران مرتبطان، فإن الطاقة وإن كان يمكن تصنيفها ضمن موارد الدولة، فيمكن أن يُجعل لها أيضا تصنيف منفصل، ويمكن أن ينظر إليها من حيث توفر المواد الخام للطاقة الأحفورية، والطاقة النووية في الدولة، وينظر إليها من ناحية استثمار الدولة للموارد الطاقية الموجودة فيها، من حيث وجود آبار النفط ومصافي النفط والمفاعلات النووية ومستوى التخصيب في المفاعلات النووية، وإن كانت هذه الموارد وما يلحقها من منشئات تُستخرج وتُشغّل من قبل الدولة أو أن الدولة أعطت امتيازاً لغيرها من الدول لتقوم بذلك. وفي المقابل فإن التكنولوجيا منها ما يكون وجوده في الدولة عادياً وغير مؤثر في وزنها، ومنها ما يكون عاملاً أساسياً في قوة الدولة، ومنها تكنولوجيا الحديد والصلب والصناعات الثقيلة، وتكنولوجيا الإلكترونيات وصناعة الرقائق الإلكترونية، ومنها الذكاء الاصطناعي الذي يدخل في الصناعات العسكرية والأعمال التجسسية، ومنها تكنولوجيا الطيران والأقمار الصناعية. وعلى ذلك أمثلة كثيرة، حيث إن «احتكار» صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان جعلها تؤثر في العالم، أي إن أمريكا أثرت في العالم باعتبار أن حكومة تايوان تابعة لأمريكا، وباعتبار أن النظام التشغيلي للرقائق التايوانية هو نظام أمريكي. بل إن أمريكا تقدم إعانات للشركات العاملة في أمريكا في هذا المجال والتي من بينها شركة إنتل التي لديها مشاريع في أريزونا وأوهايو ونيو مكسيكو وأوريغون في مجال الرقائق، وشركة تي إس إم سي التايوانية التي تمتلك مصنعين قيد الإنشاء قرب فينيكس (الجزيرة نت، ٢٨/ ١/ ٢٠٢٤)، وذلك حتى تضمن وجود هذه الصناعة تحت يدها، كما أن الناحية البرمجية للرقائق الالكترونية تمتاز بها أمريكا، وقد سبقت العالم في هذا المجال، ما ساعد في قوة تأثيرها على العالم. ومن باب آخر فإن تطور صناعة الصواريخ في روسيا جعلها تفرض واقعاً في الحروب، حيث إن صاروخ كينجال وصاروخ أوريشنك الفرط صوتي امتازت بهما روسيا قوة، وأما صناعة التجسس فإن أمريكا طورت صناعة التجسس حتى وصلت إلى إنتاج طائرات في حقبة الاتحاد السوفييتي تطير على ارتفاعات شاهقة لا يستطيع الرادار رصدها، مع كاميرات عالية الدقة تصور المواقع التي تريدها بدقة عالية، ثم طورتها إلى صناعة الأقمار الصناعية التجسسية مع كاميرات التصوير فائقة الدقة، ولا ننسى التقنيات الحديثة في تحليل الصور والتعرف على الوجوه وأمن الشبكات، حتى وصل الأمر إلى خوض حروب جيوشها عبارة عن قراصنة إلكترونيين. وإنه وإن كانت هذه الأمور لم ترصد على الخرائط الحديثة إلا أنه لا بد من ملاحظتها في الدول كما تُلاحَظ موارد المواد الخام والبترول.

هذه نبذة مختصرة من مجموعة من القضايا المهم دراستها حين النظر إلى الخريطة، مع ملاحظة أن بعضها أكثر أثراً في إبراز قوة الدولة من البعض الآخر. وإنه ليس هناك من قانون يجعل حيازة الدولة لخصائص تجعلها أكثر قوة من الدولة الأخرى، بل ينظر في الحالة العامة للناحية الجيوسياسية للدولة والنظر في مجموع الخصائص التي تمتلكها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *