الثبات على الحق
4 أيام مضت
كلمات الأعداد
291 زيارة
مؤنس حميد- العراق
في خضم الفتن والمحن، وفي أزمنة يسود فيها الظلم ويكتم صوت الحق، يبرز أصحاب المبدأ وهم يحملون أسمى صورة من صور الإيمان وأشدها إشراقاً.
إن الثبات على الحق لا يكون في أوقات الراحة، بل حين يصبح التمسك به ثمنه النفس أو العذاب، هناك يُمتحن الصادقون، وتفرز الصفوف ويعرف أهل العزيمة من أهل الهوى .
إن الحق ليس رأياً يُناقَش أو صفقة تُبرم، بل هو نور من عند الله، لا يتغير بتغير الزمان، ولا يتبدل تحت ضغط السلطان. والذين ثبتوا على الحق إنما فعلوا ذلك لأنهم يعلمون أن هذه الحياة زائلة، وأن الله تعالى أحق أن يطاع. ولنا في كتاب الله عِبَر وعِظات، فهذا سيدنا إبراهيم (عليه السلام) واجه النمرود، الطاغية الذي ادّعى الألوهية، فلم يتردد في محاججته، ولم يخف من إعلان عقيدته على الرغم من التهديد بالنار، لكنه قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فلم ير في النار عذاباً بل رآها امتحانا، فجعلها الله تعالى برداً وسلاماً عليه .
وكذلك أصحاب الأخدود، أمة كاملة رفضت الانحناء وواجهت بطش ملك أراد منهم أن يعودوا إلى الكفر أو يحرقوا بالنار، فاختاروا الإيمان والموت على الذل والخنوع. نساء وأطفال ورجال وشيوخ آثروا نار الدنيا على نار الآخرة. لم يكونوا أنبياء وإنما كانوا مؤمنين عاديين، لكن ثباتهم جعلهم خالدين في كتاب الله .
إن الحياة ليست عناداً، بل هي وعي وثبات على الحق عن إدراك عميق بأن ما يعتقده الإنسان هو الحق الذي يرضاه الله تعالى، فلا يساوم عليه ولو اجتمعت عليه الدنيا. هو موقف يخلقه القلب والعقل معاً، لا مجرد تمرد، بل رفض للخضوع لما يخالف الفطرة .
في زماننا هذا ما أكثر الطغيان، وما أكثر محاولات تزييف الوعي وتمييع الحق وتشويه الصادقين، فما أحوجنا اليوم إلى الثبات واتخاذ الموقف في وجه الطغاة. ربما يكون الثبات في قول كلمة حق أمام مسؤول ظالم، أو في الدفاع عن مظلوم، أو في الصبر على الأذى، لأنك لا تريد أن تبيع أو تساوم على مبدئك. إنّ الحق في وجه الطغيان هو ميراث الأنبياء، وشعار المؤمنين وسر بقاء الأمم الحرة، ومن يثبت على الحق يكتب تاريخه بدمه أو بصبره أو بكلمته .
ومهما بدا الظلم قوياً فإن الحق وحده هو الذي يبقى لأن الله معه: (وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا٨١ ) (الإسراء: ٨١).
إن أصحاب المبدأ هم الذين يكملون الطريق، ليس لأن الطريق سهل، بل لأنهم يحملون في قلوبهم يقيناً، وفي أعماقهم ثباتاً، وفي عقولهم وعياً. وما يُبنى على الحق لا يمكن أن يهدمه ظلم، ولا تزعزعه عواطف الباطل.
وعندما نقول إن أصحاب المبدأ هم الذين يكملون الطريق فإن غزة هي المعنى الحي لهذه الجملة. غزة حيث تنحسم معركة الحق مع الطغيان، غزة ليست فقط مدينة محاصرة، بل هي ضمير مفتوح في وجه عالم مغلق لا يقاس فيه الإنسان بعدد أنفاسه، بل بعدد المرات التي قال فيها «لا» في وجه أعتى جبابرة الشر. في غزة لا يملك الناس ما يخسرونه سوى مبدئهم، وقد قرروا ألا يفرطوا فيه، حتى ولو خسروا كل شيء، في كل بيت مهدوم، وفي كل نظرة طفل يرى السماء من بيته المدمر، معنى يتجدد: «إن المبدأ أغلى من الجسد»، و«إن الكرامة لا تُقايض بالرغيف». إن غزة ليست تحت القصف فقط، بل تحت امتحان إيماني عظيم؛ يشاهدون أجساد أحبتهم تُنتشل من تحت الركام وهم صابرون محتسبون، ثابتون على عقيدتهم مؤمنون بأن وعد الله حق وأن وعده لا يخلف: (مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣) (الأحزاب: ٢٣).
غزة صورة هذه الأمة، غزة ليست بحاجة إلى من يبكي عليها بل إلى من يفهم سرها: إنها لا تموت، لأن قضيتها عقيدتها، ولأن عقيدتها باقية حية في صدور أبنائها .
في غزة، حيث الوجع، أمهات يُكَفِّنّ أبناءهن بأيديهن ثم يرفعن رؤوسهن ويقلن: «اللهم تقبّل»،
أي يقين هذا؟ إنها العقيدة التي تكون أغلى من الروح، والتي يُبذل من أجلها الغالي والنفيس.
كل بيت مهدوم في غزة هو درس للعالم بأن الطغيان مهما بلغ لا يستطيع أن ينتصر على من امتلأ قلبه إيماناً بعقيدته، مهما بدا ضعيفاً. غزة قد تثقلها الهزائم وتربكها الفتن وتتسلط عليها قوى الشر، لكنها لا تموت، لأن في جوهرها وعداً ربانياً لا يكسر: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)(الروم: ٤٧).
أقول إن الأمة الإسلامية تمرض حين تبتعد عن الحق، حين تنسى رسالتها، وحين تغفل عن واجبها، لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها حين تبصر الطريق، طريق الخلاص الذي تَوَّجَها الله به، بهذه الأمانة التي بها خلاص البشرية وإنقاذها من عفونة الحضارة الغربية، لتعود من جديد خير الأمم، لتعتلي ذرى المجد، وتنهض من جديد، وعداً وعده الله تعالى لها بالاستخلاف والتمكين: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ) (النور:٥٥).
كل ألم تعيشه الأمة اليوم، وكل قطرة دم تسيل في سبيل الله، جزء من مخاض أمة عائدة باذن الله … وما ذلك على الله بعزيز ..
1447-02-17