طبيعة النفس البشرية
ساعتين مضت
المقالات
1 زيارة
خليفة محمد- الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) [سورة آل عمران، 14-15].
ابتُدئت الآية الأولى بالفعل الماضي المضعّف المبنيّ لما لم يُسَمَّ فاعله، ومصدرُه التزيين، ومعناه تصيير الشيء زيناً، أي حسناً، وهذا التزيين في جبلّة الإنسان، أي في أصل خلقته، فهو مفطور على حبّ الشهوات المفصّلة في الآية وغيرها مما لم تفصّله، والمزيِّنُ هو الله سبحانه، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى. و”الشهوات”جمع شهْوة على وزن فَعْلة، مصدرُ مَرّة، وفيه دلالة على تكرار الاشتهاء لكلّ ما يُشتَهى.
وقد تضمّنت الآية الأولى نوعين من المشتَهيات المحَبَّبات إلى النفس، النوع الأوّل متعلقٌ بحفظ النوع البشري، وهو النساء والبنون، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: “وَبَيَانُ الشَّهَوَاتِ بِـ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَمَا بَعْدَهُمَا، بَيَانٌ بِأُصُولِ الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ مُشْتَهَيَاتٍ كَثِيرَةً، وَالَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبْعِ، وَضَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِحِكْمَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِدَاعِي طَلَبِ التَّنَاسُلِ إِذِ الْمَرْأَةُ هِيَ مَوْضِعُ التَّنَاسُلِ، فَجُعِلَ مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَيْهَا فِي الطَّبْعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ بَقَاءُ النَّوْعِ إِلَى تَكَلُّفٍ رُبَّمَا تَعْقُبُهُ سَآمَةٌ. وَمَحَبَّةُ الْأَبْنَاءِ أَيْضًا فِي الطَّبْعِ: إِذْ جَعَلَ اللهُ فِي الْوَالِدَيْنِ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، شُعُورًا وِجْدَانِيًّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنْهُمَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْجِيلُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَبِبَقَائِهِ بَقَاءُ النَّوْعِ، فَهَذَا بَقَاءُ النَّوْعِ بِحِفْظِهِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وَفِي الْوَلَدِ أَيْضًا حِفْظٌ لِلنَّوْعِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْعَارِضِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ مِنَ النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِضُ لَهُ الضَّعْفُ، بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَيَكُونُ وَلَدُهُ دافعا عَنهُ عداء مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ، فَكَمَا دَفَعَ الْوَالِدُ عَنِ ابْنِهِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ، يَدْفَعُ الْوَلَدُ عَنِ الْوَالِدِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ”.
والنوع الثاني متعلّق ببقاء الإنسان نفسه، وهو مظهر حبّ التملّك للقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وحب الخيل المسوّمة، والأنعام، والحرث. والقناطير جمع قنطار، وهي كلمة معرّبة تعني ما يزن مائة رطل، والمراد بالمقنطَرَةِ المضاعَفةُ المتكاثرةُ، والإنسان مركوز في طبعه أن يحبّ امتلاك الذهب والفضة، ولا حدّ لهذا الحبّ، ويؤكّد هذا حديثُ رسول الله ﷺ: “لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى إليهما الثالث، ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب”. أما الخيلُ المسوّمة فيقول عنها ابن عاشور: “والْمُسَوَّمَةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ مَا قِيلَ: إنّه الراعية، فو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ، يُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ إِذَا رَعَى بِهَا فِي الْمَرْعَى، فَتَكُونُ مَادَّةُ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ أَيِ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الْمَرَاعِي مُدَدًا طَوِيلَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسَعَةِ أَصْحَابِهَا وَكَثْرَةِ مَرَاعِيهِمْ، فَتَكُونُ خَيْلُهُمْ مُكَرَّمَةً فِي الْمُرُوجِ وَالرِّيَاضِ”، والأنعامُ زينةٌ لأهل الوبر، وفيها منافع كثيرة، ذُكِرَ بعضٌ منها في القرآن الكريم. أما الحرثُ فأَصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ لِيَزْرَعَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ، وَأُطْلِقَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَحْرُوثِ فَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَحُقُولِ الزَّرْعِ.
ووَصفت الآية الكريمة تلك المزَيَّنات بأنها متاع الحياة الدنيا، والوصف بالمتاع وصف دقيق مطابق لواقعه، فهو ما يُتمتّع به مؤقتاً، ثم يزول ولا يبقى، والذي يبقى هو ما عند الله تعالى، كما تبيّن في ختام الآية نفسها {واللهُ عنده حسنُ المآب}.
وبدأت الآيةُ الثانية بأمر الله سبحانه وتعالى رسولَه أن يقولَ للناس: أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ استفهامٌ الغرضُ منه التشويق لما سيأتي بعده، وهو ثواب المتقين في الآخرة عند ربهم، وهو الجنات التي تجري من تحتها الأنهار مع الخلود فيها، والأزواج المطهّرات من العيوب ومن كل ما تشمئز منه النفوس، وفوق كل ذلك رضوان من الله، ذلك الرضوان الذي حُرِمَ منه من اتّبع شهواته في الدنيا. وذُيّلت الآية الثانية بذكر حقيقة علم الله سبحانه وتعالى بالناس، فهو الذي خلقَهم، وهو الأعلمُ بما ركّبَ فيهم من شهوات، وهو البصير بأعمالهم. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك، 14].
وقد تقدّم الخبر شبه الجملة (للذين اتّقَوْا) على المبتدأ (جنّاتٌ) لأهمّية الصفة المتضمَّنة في الخبر المتقدّم، وهي التقوى، التي تعني أنْ يلتزمَ العبدُ أوامرَ الله تعالى ونواهيَه في كلّ صغير وكبير من أعماله، وهذا يعني أنْ يسيرَ في إشباع الشهوات المحبَّبة إليه بحسب أوامر الله تعالى ونواهيه، فيمزج بذلك أعمالَه المادّية بابتغاء رضوان الله تعالى، فيكون قد مزج المادة بالروح.
وبكل ما سبق تكون الآيتان قد أشارتا إلى الغرائز الثلاث المركوزة في طبع الإنسان، مع بعض مظاهرها، فأُولاها ذِكراً غريزةُ النوع، وذُكر لها في الآية مظهران، هما النساء والبنون، وثانيها: غريزة البقاء، بمظهر التملّك ومظهر الشرف والسيادة والقوة بامتلاك الخيل، وثالثها: غريزة التديّن، بمظهر تقديس الخالق سبحانه وتعالى الذي عنده حسن المآب، ومظهر التقوى في تسيير الأعمال وإشباع الشهوات.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أنّ تلك الغرائز المركوزة في طبع الإنسان، مع مظاهرها المتعدّدة المختلفة، إضافة إلى الحاجات العضوية لديه؛ تشكّل دوافع للسلوك، فتولّد لديه الرغبة في القيام بأعمال لإشباع تلك الغرائز والحاجات، ولكنْ لا بدّ من مفاهيم تتحكّم في الإشباع، فيختار بين المشبِعات، ويقدّم بعضَها، ويرفضُ بعضها، بناء على ما لديه من مفاهيم، وبناء على وجهة نظره في الحياة، وبناء على غايته وقضيته المصيرية في الحياة الدنيا، وكان جامعُ ذلك كله في مصطلح (التقوى)، وذلك لقصور عقلِه عن وضع نظام للإشباع، وعجزه عن التشريع، والقادر على ذلك إنما هو الله وحده، الذي خلق الإنسان وكلّفه وسيبعثه ويحاسبه على التزام ما كلّفه به يوم القيامة. ومن التزم نظام الله سبحانه وتعالى في إشباع شهواته بالأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية فاز بالجنة والخلود فيها يوم القيامة. أمّا من أعرض عن نظام الله سبحانه وتعالى كان جزاؤه العقاب والعذاب من الله سبحانه، كما أنّ الله سبحانه شبّهه بالأنعام التي لا غاية لها إلا مجرّد التمتّع والأكل، يقول الحقُّ جلّ وعلا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَاتَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) [سورة محمد، 12].
وختاماً؛ فإنّ هاتين الآيتين تصلحان أساساً لدراسة النفس البشرية، يُضاف إليهما ما تعلّق بالنفس البشرية من آيات كثيرة في القرآن الكريم، تجلّي حقيقة تلك النفس، وترشد إلى بنائها البناء القويم، المؤدّي إلى السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة برضوان الله تعالى.
1446-11-28