العدد 466 -

السنة التاسعة والثلاثون، ذو القعدة 1446هـ الموافق أيار 2025م

قصّة أمريكا مع إيران وحزبها في لبنان

 

أ.أحمد القصص- لبنان

 

ما الذي يجري في لبنان؟ من قرّر الحرب الدائرة فيه؟ ومن الذي يديرها؟ وهل قرّرت الولايات المتّحدة الأمريكية حقّا القضاء على حزب إيران فيه؟

 

حين تعرّض حزب إيران للهجوم الصادم بتفجير آلاف من أجهزة الباجر وأجهزة الاتّصال في أيدي عناصره، واغتيال أمينه العامّ بعد ذلك بأيّام واغتيال معظم كبار قادته، ثارت التساؤلات: من الفاعل؟ أهو كيان يهود؟ أم هو عمل بحجم أكبر من حجم الكيان؟ فإن كان هذا القرار أكبر من أن يتّخذه الكيان فلا يبقى سوى أنّ مَن اتّخذه هو الولايات المتّحدة، سواء أكانت هي المنفّذة مباشرة أو كان الكيان هو المنفّذ. ثمّ جاءت عمليات التدمير الواسعة لقرى الجنوب اللبناني والقرى البقاعية وضاحية بيروت الجنوبية مع تأييد أمريكي واضح لتقطع الشكّ باليقين بأنّ قرارا أمريكيا ضخما وراء ما يجري، الغاية منه لا تخفى، وهي توجيه ضربة قاسية للحزب، بل ربّما قاصمة، تستهدف بنيته التنظيمية بقتل كبار رؤوسه وقادته العسكريين من الصفّ الأوّل والثاني وما يليهما، كما تستهدف تدمير أكثر ما يمكن تدميره من مخزونه العسكري وأسلحته الإستراتيجية. كما تستهدف الضغط عليه وخنقه عبر تدميرٍ واسع لقرى طائفته الحاضنة ومدنها وسائر منشآتها. فالقرار الخطير هذا إذن بتدمير بنية الحزب وخنقه قرار أمريكي، فُوّض كيان الاحتلال بتنفيذه بالوكالة عن أمريكا، وبالأصالة أيضا عن نفسه، إذ إنّه صاحب المصلحة الكبرى في القضاء على القوّة العسكرية التي لطالما شكّلت خطرا على أمنه، كما شكلت له إهانة منذ التسعينيات من القرن الماضي وحتّى حرب المشاغلة التي بدأت في اليوم التالي لغزوة طوفان الأقصى في أكتوبر من العام الماضي، فضلا عن منافسة إيران له على النفوذ في منطقة المشرق العربي.

 

ماذا وراء قرار أمريكا هذا الذي فاجأ كثيرا من المعنيّين والمراقبين، بعد سنوات طوال من اعتمادها للحزب لاعباً أساسياً في السياسة المحلّية للبنان، بل في السياسة الإقليمية أيضا؟ لماذا قرّرت الآن ضربه هذه الضربة القاسية؟ وما الغاية منها؟ أهي القضاء عليه كلّيا؟ أم إنهاء دوره العسكري فقط؟ وهل قرّرت إنهاء هيمنته على معظم السلطة السياسية في لبنان؟ ولصالح مَن؟ ولماذا؟

الإجابات على هذه المسألة هي التي ترسم صورة المشهد السياسي وتوضح حقيقة ما يجري حاليا في لبنان. ولنبدأ بإعطاء لمحة عن تاريخ الحزب في لبنان وطبيعة الدور الذي أدّاه فيه، وصولا إلى الحالة الراهنة.

 

نشأ الحزب في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي عقب قيام دولة خميني في إيران بسنوات قليلة، وقد تزامنت نشأته مع اجتياح جيش الاحتلال الواسع للبنان سنة ١٩٨٢، والذي بعد توغّله في الأراضي اللبنانية وصولا إلى العاصمة بيروت وعمق الجبل والبقاع عاد أدراجه ليستقرّ في أراضي الجنوب التي تحوّلت إلى ميدان مقاومة عسكرية للاحتلال، أسهمت فيها قوى مختلفة من المكونات السياسية والحزبية، قبل أن يقضي الحزب لاحقا على جميع هذه القوى ويستفرد وحده بصفة القوّة المقاوِمة.

لقد كانت نشأة الحزب الأولى في تلك الأوضاع المتفجرّة منفلتة من القبضة الأمريكية، حيث تولّى قيادة الحزب أشخاص يغلب عليهم الإخلاص ورغبة الجهاد، فكان من بواكير أعمالهم الضخمة التفجير الذي أدّى  سنة ١٩٨٣إلى قتل المئات من جنود القوّات الدولية التي نزلت في لبنان عقب اجتياح جيش كيان يهود، وفي مقدّمتها قوّات المارينز الأمريكية. وقد أعلن المنفّذون المسؤولية عن هذه التفجيرات آنذاك باسم (الجهاد الإسلامي). ثمّ ما لبث النظام السوري أن طوع الحزب، بالتواطؤ مع نظام إيران، فأقصوا أمينه العامّ الأوّل الشيخ صبحي الطفيلي، وأبعدوا قياداته المخلصة ذات القرار الحرّ. ووضعت إيران قرار حزبها العسكري بعد ذلك وديعة لدى حافظ أسد الذي كانت قوّاته تسيطر على جزء كبير من لبنان، ليضبط إيقاع عملياته العسكرية وفق سياسته التي كانت بدورها تتكامل مع السياسة الأمريكية في المنطقة. ولم يكن للحزب في تلك الحقبة أيّ دور في السياسة الداخلية اللبنانية وفي السلطة الرسمية التي أصبحت منذ عام ١٩٩٠ تحت وصاية تامّة من النظام السوري. فاقتصر نشاط الحزب على أعمال المقاومة، فحقّقت هذه المقاومة نجاحا باهرا سنة ٢٠٠٠ بدفع  الاحتلال إلى سحب قوّاته إلى ما وراء الحدود اللبنانية. وبالطبع لم يكن هذا الإنجاز خارج إطار السياسة الأمريكية، بل ضمنه بطبيعة الحال، إذ لم يكن من سياسة الولايات المتّحدة أن تبقى قوات الاحتلال في لبنان، فقرار مجلس الأمن الدولي رقم ٤٢٥ الصادر سنة ١٩٧٨ كان يقضي بانسحاب الاحتلال من الأراضي اللبنانية كلّها.

 

بعد سنوات عدّة جاءت الأحداث المفصلية في لبنان لتدفع الحزب إلى واجهة العمل السياسي. ففي عام ٢٠٠٥ وأثناء غرق الولايات المتّحدة في مستنقع العراق نضجت في لبنان طبخة لإنهاء هيمنة نظام بشّار على لبنان، أعدّها آنذاك رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري مع صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ووليّ أمره الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومع زعامات لبنانية على رأسها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. وعلى الرغم من محاولة نظام بشّار وحليفه حزب إيران إفشال هذه الطبخة باغتيال الحريري اضطرّ الجيش السوري للانسحاب في نيسان من ذلك العام، إذ إنّ اغتيال الحريري أدّى إلى نتيجة معاكسة، فقد استفزّ غالبية أهل لبنان، ولا سيّما (أهل السنّة)، واحتشد عشرات الآلاف في مظاهرات ضخمة في وسط بيروت في ١٤ آذار احتجاجا على عملية الاغتيال، الأمر الذي أحرج أمريكا فأوعزت إلى بشّار بسحب قواته من لبنان. وهذا ما دفع حزب إيران إلى واجهة السياسة اللبنانية. فأمريكا التي كانت غارقة آنذاك في مستنقع العراق بعد غزوه، وفي خضمّ تكتّل سائر الدول الكبرى ضدّها آنذاك، وجدت لبنان يتفلّت من يديها لصالح النفوذ الأوروبي، فدفعت بالتوافق مع إيران بحزبها إلى الدخول في السلطة، لا لتسليمه إيّاها، وإنّما لإحداث توازن مع القوى المتعاملة مع أوروبا لتمنع استئثارها بلبنان ريثما تتّخذ قرارها النهائي بشأنه. فنشأ منذ ذلك الحين ما يعرف بتحالف ٨ آذار بزعامة حزب إيران مقابل تحالف ١٤ آذار بزعامة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري نجل رفيق الحريري. وقد بقي لبنان أسير هذا التوازن والنزاع بين التحالفين حتّى سنة ٢٠١٦، حين انفرط عقد تحالف ١٤ آذار وآلت السلطة الفعلية في لبنان إلى الحزب وحلفائه. ففي سنة ٢٠١٥، وبعد سنوات من تقديم إيران خدماتها الجليلة لأمريكا، وأهمّها الإسهام الكبير في ضرب الثورة الشعبية في سوريا وإسناد نظام أسد، وفي المرحلة التي قرّرت فيها أمريكا تخفيف أعبائها في المنطقة للتفرّغ لمواجهة الصين في منطقة الشرق الأقصى، توصّلت إدارة أوباما الديمقراطية إلى توقيع الاتّفاق النووي مع إيران، ضمن صفقة شملت مجموعة من القضايا الخلافية بين الدولتين. فكان ممّا ترتّب على هذا التفاهم أن وافق أوباما على تفويض السلطة في لبنان لحزب إيران. فأوعزت أمريكا لزعيم تيار المستقبل سعد الحريري صاحب أكبر كتلة في البرلمان آنذاك والمصنّف زعيما لـ(أهل السنّة) في لبنان بأن يوافق على انتخاب ميشال عون حليف حزب إيران رئيسا للجمهورية، بعد مضيّ ما يقرب من عامين ونصف على شغور هذا المنصب، فانتخب سنة ٢٠١٦. ولم يقتصر الأمر على تنصيب حليف الحزب رئيسا للجمهورية، وإنّما زاد الحريري على ذلك تنازلا للحزب بأن وافق على تعديل قانون الانتخابات، بحيث أسفرت الانتخابات عن نيل الحزب وحلفائه الغالبية المطلقة في مجلس النواب سنة ٢٠١٨ وتراجع حجم كتلة المستقبل المحسوبة على (أهل السنّة) تراجعا كبيرا. فصرّح بعض المسؤولين الإيرانيين آنذاك بأنّ إمبراطورية إيران وصلت إلى شاطئ المتوسط. وبالفعل بلغت نشوة الحزب بعد هذه الانتخابات ذروتها، إذ شعر آنذاك أنّه أصبح صاحب السلطة في لبنان بلا منازع، فوق ما امتاز به من سائر القوى السياسية بامتلاكه قوّة عسكرية تضاهي القوات المسلّحة اللبنانية الرسمية، ولطالما استفاد من قوته هذه في مواجهة كلّ من يشكّل خطرا على مصالحه ونفوذه بشكل من الأشكال. إلّا أنّ هيمنته هذه على السلطة الرسمية كانت مرهونة بدوام التحالف الذي ارتكز إليه. فقد ارتكزت السلطة التي تربّع على عرشها على ثلاث قوائم، هو يمثل إحداها، والثانية هي تيّار ميشال عون، والثالثة هي تيّار سعد الحريري. فإذا ما كُسرت إحدى هذه القوائم انهار التحالف وانهارت بالتالي سيطرة الحزب على السلطة، أو على الأقلّ ارتخت قبضته عليها. وهذا ما حصل فعليا بعد ذلك، وتحديدا سنة ٢٠١٩.

 

فلم يمض وقت طويل إثر ذلك التفاهم بين الإيرانيين وإدارة أوباما قبل أن يتولّى ترامب السلطة مطلع عام ٢٠١٧، لينقلب على ما أنجزه سلفه من تفاهمات مع إيران. فقد عمد على الفور إلى الانسحاب من طرف واحد من الاتّفاق النووي ومن كثير من مقتضياته، وأعاد تشديد الحصار الاقتصادي عليها، بل ومرّغ أنفها بالتراب بقتل رأس محورها العسكري في المنطقة قاسم سليماني سنة ٢٠٢٠. أمّا في شأن لبنان فكانت بوادر انقلابه على ذلك التفاهم حين استعجل القطاف قبل أوانه، فأوعز إلى حاكم السعودية ابن سلمان بأن يحتجز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري ويجبره على تقديم استقالته عبر رسالة مصوّرة من الرياض، في عجلة منه لكسر سلطة طهران في لبنان. وكان واضحا أنّه أقدم على هذه الخطوة دون تنسيق مع المؤسّسات الدستورية الأمريكية، ولا مع الدولة العميقة، ولا حتّى مع وزير خارجيته آنذاك، وأدّى الضغط الدولي الذي كانت فرنسا في مقدّمته إلى الإفراج عن الحريري وعودته عن طلب الاستقالة واستمراره في منصبه عامين آخرين قبل أن يستقيل بإيعاز من إدارة ترامب نفسها.

 

ففي عام ٢٠١٩، وبعد ظهور بوادر انهيار مالي في لبنان، عمدت فرنسا كعادتها إلى الدعوة لعقد مؤتمر دولي لدعم لبنان ماليا، تحت عنوان مؤتمر سيدر. وأسفر المؤتمر عن جمع حوالي ١٢ مليار دولار تضخّ في الاقتصاد اللبناني للحؤول دون انهياره. إلّا أنّ الولايات المتّحدة ضغطت على الدول المانحة لتؤجّل دفع ما تطوّعت به حتّى يتّخذ لبنان إجراءات جدّية في مكافحة الفساد الذي يؤدّي إلى نهب لصوص السلطة لهذه الأموال. وبطبيعة الحال أدّى حجب هذه الأموال إلى الانهيار المالي الذي أرادته أمريكا للبنان، من أجل وضع حدّ لسلطة حزب إيران. وأدّت بواكير الانهيار المالي في لبنان إلى خروج أعداد هائلة من الناس المنتفضين إلى الشوارع في كافّة المدن الكبرى قاطعين الطرق الدولية فيما يشبه ثورة شعبية. فجاءت الظروف المواتية لدفع الحريري إلى تقديم استقالة حكومته بحجّة النزول عند رغبة الشعب. ولم يستطع (الثنائي الشيعي) نصر الله وبري -وكذلك حليفهم ميشال عون- إخفاء غضبهم الشديد حينها وارتباكهم من الاستقالة المفاجئة لحليفهم سعد الحريري الذي كان أحد أهمّ ركائز عهدهم، وفشلت كلّ محاولاتهم لإقناعه بالعودة عن استقالته، فانفرط عقد التحالف الذي ارتكز إليه الحزب في القبض على السلطة في لبنان. وفاقمت استقالة حكومة الحريري حدّة الانهيار المالي إلى درجة أن فقدت الليرة اللبنانية ٩٥٪؜منقيمتها. ودخل لبنان في حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية والأمنية مع اشتداد حدّة المظاهرات والاحتجاجات التي اتّسمت غالبا بقدر كبير من العنف وسقطت فيها أعداد من القتلى والجرحى. وبدأ جماعة أمريكا على الفور بالترويج لطرح تسمية رئيس حيادي لحكومة تتشكّل من وزراء تكنوقراط لا ينتمون إلى أيّ من التيّارات السياسية النافذة في لبنان. ثمّ بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون بداية تشرين الأوّل نوفمبر سنة ٢٠٢٢ وعجز البرلمان عن انتخاب رئيس جديد بسبب التوازن المستجد فيه بانسحاب تيّار المستقبل من حلفه مع الحزب والتيّار العوني أوعزت أمريكا إلى نوّاب المعارضة بالدعوة إلى انتخاب رئيس حيادي، وكان قائد الجيش -وما يزال- هو المرشّح الأبرز والأكثر جدّية، إلّا أنّ حزب إيران بقي متمسّكا بمرشّحه سليمان فرنجية حتّى تلقّى تلك الضربة الشادخة على رأسه في أيلول سبتمبر الماضي. وقد مضى أكثر من سنتين حتى الآن ولبنان بلا رئيس، تديره حكومة تصريف أعمال مستقيلة منذ حوالي سنتين ونصف. كلّ هذه الظروف جعلت من الكيان اللبناني خرقة بالية، ومع ذلك لم يُبدِ الحزب أيّ ليونة للتخلّي عن سلطته، آملاً في صفقة بين أمريكا وطهران تحفظ له اليد العليا فيه، حتّى ازدادت الأوضاع حرجا بحصول عملية طوفان الأقصى في غزّة في السابع من أكتوبر من العام الماضي واضطرار الحزب لإعلان ما سمّاه حرب المساندة، وهي الحرب التي لم تُسمن ولم تُغنِ أهل غزّة من إجرام كيان الاحتلال، وإنّما كانت الغاية الوحيدة منها أن تحتفظ طهران وحزبها اللبناني بزعامة محور الممانعة. وكان غرور إيران وحزبها يوحي لهما أنّ كيان يهود لن يضيف إلى حربه في غزّة حربا مع المحور، لما يتمتّع به المحور من توازن رعب وردع مع الكيان. ولكنّ موقف إيران وحزبها كان يزداد حرجا كلما زادت وتيرة اغتيال الكيان لقادتهم العسكريين في لبنان وسوريا وإيران نفسها، دون أن يجرؤ المحور على الردّ المناسب، إلى أن جاءت الصدمة الكبرى بين السابع عشر والسابع والعشرين من سبتمبر أيلول الماضي، وهي الأيام العشر التي شهدت تفجير آلاف العناصر من الحزب الذين يحملون أجهزة الباجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي ثم اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله. ولم يكن ليخطر في بال إيران ولا حزبها أن تتّخذ أمريكا بقيادتها الديمقراطية هذا القرار الضخم بضربة قاصمة تشدخ نافوخ الحزب في لبنان.

 

لقد كانت هذه الضربة بحجمها الكبير والمزلزل ثمّ ما أعقبها من حرب تدميرية هائلة استهدفت تدمير قرى شيعية عن بكرة أبيها، فضلا عن استهداف جميع قادة الحزب لتصفيتهم، دليلا على أنّ القرار أكبر كثيرا من أن يكون قرار كيان الاحتلال، ثمّ جاءت مواقف أمريكا الداعمة لهذه الحرب الشرسة دليلا على أنّها هي التي قرّرت قصم ظهر الحزب الذي سلمته قبل سنوات قليلة فقط مقاليد السلطة في لبنان. وعادت من جديد إلى مطالبها التي كانت تطرحها منذ إسقاط حكومة الحريري سنة ٢٠١٩ وفراغ سدة رئاسة الجمهورية سنة ٢٠٢٢: انتخاب رئيس للجمهورية وتسمية رئيس للحكومة تسمّيهما هي، وتشكيل حكومة من وزراء تكنوقراط لا يمتّون بصلة إلى الوسط السياسي في لبنان، ولكن هذه المرّة تحت لهيب النار ووطأة الدمار والقتل والتشريد، فضلا عن السعي لتقويض قدرة الحزب العسكرية وإبعاد تهديده عن كيان يهود عند الحدود مع فلسطين المحتلة.

 

والسؤال الأهمّ الآن: ما الذي جعل الولايات المتّحدة، حتّى بعد سقوط ترامب سنة ٢٠٢٠ وعودة الحزب الديمقراطي إلى البيت الأبيض، تستمرّ في العمل على إنهاء دولة حزب إيران في لبنان بعد أن سلّمته إيّاه تسليم اليد باليد، بل وتُقرّر فوق ذلك القضاء على قوّته العسكرية وتقويض بنيته السياسية بقتل جميع رؤوسه؟ الجواب يكمن في عدّة عوامل سياسية، أهمّها في النقاط التالية:

 

١- لقد توسّعت الهيمنة الإيرانية في المنطقة بحيث اقتربت من أن تصبح إمبراطورية إقليمية، إذ بات نفوذها يمتدّ في كلّ من العراق وسوريا ولبنان وغزّة واليمن، الأمر الذي رفع درجة الغرور لدى الصقور الثوريين فيها وجعلهم مستعدّين للتمرّد على كثير من القرارات الأمريكية في المنطقة، وعلى رأسهم سليماني الذي حانت لحظة اغتياله مطلع عام ٢٠٢٠. فوجب على أمريكا تقليص النفوذ الإيراني وإعادته إلى حجمه الطبيعي الذي تقرره هي.

وقد يسأل سائل: أليست الولايات المتّحدة هي من أوصلتهم إلى هذا النفوذ الواسع في المنطقة؟ والجواب: بلى، هي من فعلت. ولكنّ هذا لم يكن ضمن تخطيط إستراتيجي مسبق لإنشاء إمبراطورية واسعة لإيران في المنطقة، فليس من منطق الدول الاستعمارية أن تنشئ إمبراطوريات إقليمية تملك من القدرات ما يمكّنها من منافستها ومعاندتها، أو على الأقلّ مناورتها، في مناطق نفوذها. ولكنّ حالات الفشل والاضطرار المتكرّرة في الإقليم هي التي اضطرّت أمريكا إلى تفويض إيران بملفات عدّة فيها. فهي فشلت في العراق بعد غزوه سنة ٢٠٠٣ وتكتّلت دول العالم ضدّها، وكان هذا الفشل لصالح تزايد النفوذ الإيراني فيه. وفشلت في الحفاظ على لبنان تحت وصاية وكيلها بشّار سنة ٢٠٠٥ فاستعانت بإيران في وجه القوى الموالية لأوروبا، وفشلت في القضاء على الثورة السورية بين سنتي ٢٠١١ و٢٠١٣ فاستعانت بإيران ثمّ بروسيا. فشكّلت تلك السنوات فرصة لطهران لتوسيع نفوذها في المنطقة وتعزيز قوّتها العسكرية فيها. فكانت تلك الاستعانة الواسعة بإيران مرحلة اضطرارية ومؤقّتة في نظر الأمريكيين أملتها تلك الظروف. وحين زالت تلك الظروف وجب على الدولة الأولى تقليص نفوذها وقصقصة جوانحها التي بسطتها على المنطقة.

 

٢- إنّ القرار الأمريكي بتقليص نفوذ إيران لم تكن الغاية منه العودة إلى النظام الإقليمي الذي كانت سائدا قبل توسّع هذا النفوذ، أي إلى النظام الذي أسّسته بريطانيا مع حليفتها فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى على أساس اتفاقية سايكس-بيكو وأخواتها. وإنّما كانت غايته استكمال المشروع الذي بدأ في تنفيذه المحافظون الجدد سنة ٢٠٠٣ حين شرعوا في احتلال العراق، وبدأوا بمخطّط لتقسيمه فدراليا إلى كانتونات طائفية أو مذهبية أو عرقية. وكانوا يخطّطون لاحتلال المزيد من الدول في المنطقة لتنفيذ السيناريو نفسه فيها، وفشلوا آنذاك بسبب تكتّل العالم كلّه ضدّهم، وغرقوا في المستنقع العراقي، وتضعضعت سيطرتهم على لبنان سنة ٢٠٠٥، ثم جاءت ثورة المنطقة العربية مع نهاية سنة ٢٠١٠، والتي امتدّت إلى سوريا في آذار سنة ٢٠١١ لتكون شغلهم الشاغل. إلّا أنّ ما آلت إليه سوريا من انقسام بين القوى المحلّية والإقليمية والدولية والتهجير المتعمّد للملايين من الغالبية المسلمة فيها، أغرى الولايات المتّحدة بالعودة إلى مشروعها التقسيمي من جديد. وها هي منطقة المشرق العربي بعراقها وشامها باتت مهيّأة في نظر الأمريكيين لإعادة صياغتها صياغة أمريكية على أنقاض صيغة سايكس-بيكو، بتقسيم دولها على أسس عرقية وقومية وطائفية ومذهبية تحت عناوين من مثل الفدرالية أو اللامركزية الإدارية، بعدما حوّلت هي وحلفاؤها الغالبية العربية السنّية فيها إلى أقلّية كسائر الأقلّيات الأخرى فيها.

 

٣- تراجعت الولايات المتّحدة عن قرارها بالانسحاب الجزئي من المنطقة تفرّغا منها للصين وتعزيز نفوذها في الشرق الأقصى. فبعد محاولاتها إدخال الصين في حرب باردة معها ومع حلفائها، وعجزها عن جرّ روسيا إلى الانضمام إليها في مشروعها هذا، عمدت إلى تهدئة العلاقات مع الصين وتخفيف التوتر بينهما. ثمّ قرّرت إدارة بايدن تأديب روسيا، وذلك بتوريطها في الحرب الأوكرانية وضرب العلاقة بينها وبين أوروبا. وقد أدّى ضرب هذه العلاقة إلى توريط أوروبا في أزمة انقطاع الغاز عنها، إذ كانت روسيا هي المصدر الرئيسي، بل شبه الوحيد، لإمداد أوروبا بالغاز. وكانت أمريكا معنيّة بأن تؤمّن مصدرا بديلا للغاز الروسي لأوروبا، لاستدامة استغنائها عن روسيا، وبالتالي لعزل روسيا وإضعافها اقتصاديا. فما مصدر الغاز البديل لأوروبا؟ إنّه شرق المتوسط. وهذا ما يقودنا إلى النقطة التالية.

 

٤- منذ سنوات بدأت منطقة شرق المتوسط، أي سواحل سوريا ولبنان وفلسطين، تكتسب معنى جديدا في نظر الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكية. ففضلا عن كون هذه الدول مجاورة لكيان الاحتلال الأمر الذي يجعلها ذات خطورة إستراتيجية، وفضلا عن كونها تحتلّ موقعا تجاريا مهمّا من حيث هي بوابة آسيا الغربية المطلّة على المتوسّط وأوروبا… فضلا عن ذلك كلّه فإنّها دخلت في السنوات الأخيرة في عداد الدول المختزِنة لأضخم كمّيات من الغاز. فالنظرة إليها أضحت شبيهة بالنظرة إلى دول الخليج النفطية، بل لقد بزّت تلك الدولَ بسبب قربها من القارّة الأوروبية، وهي القارّة التي باتت في أمسّ الحاجة إلى مصدر بديل للغاز الروسي الذي انقطع منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية سنة ٢٠٢٢. وقد برز السعي الحثيث من الولايات المتّحدة منذ سنتين لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الغاصب لتأمين تدفّق الغاز من حقل كاريش القريب من المياه الإقليمية اللبنانية. وبالفعل بدأ الغاز بالتدفّق فور توقيع السلطة اللبنانية على هذا الاتّفاق الخياني الذي تمّ بموافقة حزب إيران وبعد تفاوض غير مباشر معه. إلّا أنّ هذا الحقل لا يلبّي سوى الجزء القليل من حاجة السوق الأوروبية للغاز. وما تتطلّع إليه أوروبا هو البدء بإنشاء مزيد من منصّات استخراج الغاز في شرق المتوسّط، بما فيها لبنان. وقد شرعت شركة توتال الفرنسية مع شركاء آخرين في التنقيب عن الغاز أمام الساحل الجنوبي للبنان بالتعاقد مع الحكومة التي يهيمن عليها حزب إيران، ولكنّ أمريكا قطعت تلك العملية بالضغط على شركة توتال لتتراجع، فزعمت أنّ التنقيب لم يسفر عن العثور على الغاز. فأمريكا لا تريد للبنان الذي يسيطر عليه حزب إيران أن ينال هذا المكسب، بل تريد الإمعان في إضعاف الكيان اللبناني والضغط عليه حتّى تتوصّل إلى انتزاع سلطته وتعديل نظامه ليصبح تحت سيطرتها المباشرة، لتتولّى هي بعد ذلك، ومن خلال سلطة موالية لها، الإشراف على استخراج الغاز وتلزيم الشركات وتوزيع الحصص، الأمر الذي يجعلها المتحكّمة بإمداد الغاز إلى أوروبا بعدما كان هذا امتيازا لروسيا طوال عشرات السنين الماضية.

 

هذه هي حقيقة ما يجري في المنطقة، فالحرب القائمة في غزّة والضفّة الغربية ولبنان منذ أكثر من سنة ما هي إلّا تتمّة لمخطّط شيطاني بدأت محاولات تنفيذه منذ أوائل القرن الواحد والعشرين. وترى الولايات المتّحدة الآن، بجناحيها الجمهوري والديمقراطي، أنّه آن أوان إتمامه، وإعلان الشرق الأوسط الجديد الذي قيل منذ غزو العراق إنّه سيُرسم بخطوط الدم.

إنّ هذه الحروب المجرمة والخطط الشيطانية التي تنفّذها أمريكا في بلادنا بالتواطؤ مع حلفائها الدوليين والإقليميين والمحلّيين ستستمرّ في سفك دمائنا وتدمير حواضرنا وتشريد الملايين منّا وانتهاك أعراضنا ونهب ثرواتنا ما لم تنتفض الأمّة انتفاضة واعية، لتتحرّر من قبضتهم التي أحكموها على رقابنا. وما هذه القبضة إلّا أنظمة الطغيان والعمالة التي حكمت بلادنا وحوّلتها إلى معتقلات ضخمة منذ عشرات السنين، لنقيم على أنقاضها دولة تنتمي إلينا ولإسلامنا الذي ننتمي إليه، فتعلي سيادة الشرع، وتجسّد السلطان الذي أوكله الشرع لنا، بأن نُنَصّب إمامًا نبايعه على السمع والطاعة، فيعود لنا كياننا وهويّتنا وشخصيّتنا وقرارنا وحصننا الذي نأوي إليه. قال رسول الله ﷺ: (إنّما الإمام جُنّة، يقاتَل من ورائه ويُتّقى به).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *