الولايات المتحدة على مفترق الانقسام الكبير
10 ساعات مضت
المقالات
59 زيارة
تشهد الولايات المتحدة اليوم موجة احتجاجات غير مسبوقة، اتخذت اسم No Kings Protests، في أكثر من ألفَي مدينة وبلدة. سبعة ملايين متظاهر خرجوا في الثامن عشر من أكتوبر يرفعون شعارًا بسيطًا: «لا للملكية، لا للاستبداد». لكن خلف الشعارات، ثمّة مشهد أكثر عمقًا: انكشاف التصدّعات الداخلية التي وصفها عدد من مراكز الأبحاث الأميركية منذ سنوات بأنها نذر حرب أهلية باردة تتسارع نحو السخونة.
الاحتجاجات الراهنة ليست حدثًا عابرًا، بل حلقة جديدة في سلسلة تصعيدات مجتمعية وسياسية متواصلة منذ عقدين، حيث بلغ الاستقطاب السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين مستويات وصفتها مؤسسة Brookings بأنها «تهديد مباشر للنظام الديمقراطي الأميركي». الخلافات اليوم أصبحت لا تدور حول السياسات، بل حول هوية الدولة ذاتها: من يمثل “أميركا الحقيقية”، وما معنى المواطنة، وأي قيم تحكم العلاقة بين السلطة والفرد.
تحت هذا الانقسام السياسي الحاد تتفاعل طبقات أخرى من التوتر: الفجوة الطبقية غير المسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث يمتلك 1 % من السكان ثروة تعادل ما يملكه 99 % مجتمعين، وفق بيانات Pew Research Center وFederal Reserve. هذه الفجوة، كما بيّنت دراسات Brookings وCSIS وRAND، لم تبقَ مجرّد مؤشّر اقتصادي، بل وقود اجتماعي قابل للاشتعال، يُغذّي مشاعر السخط والعدمية وفقدان الثقة بالمؤسسات.
على مستوى الثقة العامة، تشير دراسات Harvard Kennedy School إلى أن أقل من 20 % من الأميركيين يثقون بالحكومة الفدرالية. ومع تصاعد الخطاب العنيف في الفضاء السياسي والإعلامي، باتت الفجوة بين المواطن والدولة أكثر اتساعًا، بينما تحوّلت وسائل التواصل إلى ساحات تعبئة نفسية تهيّئ للانفجار.
تاريخيًا، لا تنهار الإمبراطوريات حين تُهزم في الخارج، بل حين تعجز عن إدارة تناقضاتها وتحدّياتها في الداخل. والولايات المتحدة اليوم تواجه تآكلًا متزامنًا في ثلاثة أعمدة كانت تمثل قوتها: الثقة الداخلية، والتفوق الاقتصادي، والقوة الناعمة. فالمجتمع ممزق بين نخبة مالية تحتكر الثروة وجماهير ترى أن “الحلم الأميركي” قد تلاشى، والاقتصاد مثقل بدين وطني، فديون أمريكا وصلت 37 ونصف تريليون دولار، بزيادة 2.5 تريليون خلال 12 شهرا فقط بينما يتراجع الإيمان بالقيم التي شكّلت صورة أميركا ذاتها.
من هنا، يمكن القول إن ما يحدث في شوارع الولايات المتحدة ليس احتجاجًا على قرار سياسي، بل استفتاء شعبي على مستقبل الكيان الأميركي. إن استمرّ هذا الاتجاه نحو الاستقطاب، فإن البلاد قد تدخل طور “الاحتقان الهيكلي” الذي يسبق عادة الانفجار المجتمعي أو الانقسام الفيدرالي الناعم. وقد تختلف السيناريوهات بين حرب أهلية مفتوحة ونظام مزدوج متخاصم داخل دولة واحدة، لكن المؤكد أن «أميركا القديمة» تتفكك بوتيرة أسرع مما يُقال في خطاباتها الرسمية.
في النهاية، لا يحتاج المراقب إلى نبوءة ليدرك أن الولايات المتحدة، كما حذّرت دراسات برينستون وRAND، تقترب من نقطة اللاعودة في صراعها الداخلي: بين سلطة مركزية متضخمة وشعب يطالب باستعادة “جمهوريته”. وما هذه الاحتجاجات إلا أول نذير من نُذر التحوّل التاريخي الذي قد يعيد رسم ملامح أميركا والعالم معها.
1447-05-08