الديمقراطية والشورى بين الحقيقة والزيف
12 ساعة مضت
المقالات
61 زيارة
دريد عبد الله – العراق
الحمدُ للهِ الذي أوضحَ لنا معالِمَ الدِّين، ومَنَّ علينا بالكتابِ المبين، وشرعَ لنا من الأحكام، وفصَّلَ لنا من الحلال والحرام ما جعله على الدنيا حكمًا تقرَّرت به مصالحُ الخلق، وثبتت به قواعدُ الحق، ووكل إلى وُلاةِ الأمور ما أَحسَنوا فيه التقدير وأَحكموا به التدبير.
فله الحمدُ على ما قدَّر ودبَّر، وأفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التسليم على رسولِه الذي صدعَ بأمره، أمّا بعد:
لقد كَثُرَ الحديثُ عن الديمقراطية والدعوةِ إليها، فلا يكادُ يظهر زعيمٌ سياسيٌّ أو مفكِّرٌ في وسيلةٍ من وسائل الإعلام إلاّ ويمتدحها، وكأنها السِّحرُ الساحرُ والبلسمُ الشافي.
وقد تسلَّلت إلى عقولِ كثيرٍ من المسلمين شُبهةٌ خفيَّةٌ، تُصوِّر نظامَ الحكم في الإسلام على أنه نظامُ شُورى، وأن الديمقراطية هي ذاتُها الشورى! ثم يخرجون بنتيجةٍ مؤدّاها أنَّ الحكمَ في الإسلام ديمقراطيٌّ.
وهذا القولُ قفزٌ على الحقيقة؛ إذ إنَّ الشورى ليست نظامَ حكمٍ ولا نظامَ حياة، بل هي أسلوبٌ لتحرّي الرأي الصائب.
ماهية الشورى في الإسلام
أعضاءُ مجلسِ الشورى هم أهلُ الحلِّ والعقد، ممن برزوا في جماعة المسلمين ونالوا ثقتَهم، ليمثِّلوا الناس في الرأي ويكونوا مستشاري الخليفة، والعضوُ في مجلس الشورى يُنتخب انتخابًا، ولا يُعيَّن تعيينًا، وقد أُخِذت هذه الفكرة من تخصيصِ الرسول صلى الله عليه وسلم اثنَي عشرَ نقيبًا من الأنصار والمهاجرين.
وحقيقةُ الشورى أنها لا تكون في التشريع؛ لأن التشريع من الله، لا من الناس، وإنما تكون في المباحات التي أذن الله فيها بالاختيار. فالشورى فكرةٌ منبثقةٌ من العقيدة الإسلامية، وليست نظامَ حكمٍ قائمًا بذاته، لأن نظام الحكم هو الذي يبيّن أساس الدولة وشكلها وصفاتها وأجهزتها والقوانين التي تُطبّق فيها. أمّا مجلسُ الشورى، فليس إلا جهازًا من أجهزة الحكم.
الديمقراطية: المفهوم والنشأة
في المقابل، فإنَّ الديمقراطية ليست أسلوبًا ضمن نظامٍ أوسع، بل هي النظامُ ذاته، كما هو واضحٌ في جميع الدساتير الديمقراطية في العالم. وهي لفظةٌ غربيّة تعني: «حكم الشعبِ بالشعبِ ولأجلِ الشعب»؛ فالشعب هو السيّد المطلق وصاحب السيادة، يُشرّع لنفسه ويسير شؤونَه بإرادته. نشأت الديمقراطية في أوروبا حين زعم الملوك أنهم وكلاءُ الله في الأرض، يحكمون البشرَ بسلطانه، فثار الناس على هذا الادعاء، وأقاموا نظامًا يستمدّ سلطانه من فصلِ الدين عن الحياة. فهي إذن نظامٌ بشريٌّ محض، لا علاقة له بوحيٍ ولا بدين، يمنحُ الإنسانَ حقَّ التشريع من دون الله، ويُنكر أن التشريعَ حقٌّ لله وحده.
لهذا لا يجوزُ القولُ بأن الديمقراطية مجردُ «آليةٍ إدارية» كأنظمة المرور، فهي تقوم على رؤيةٍ عقديّةٍ وفكريةٍ تُنافي الإسلامَ من أساسه. ولذلك لا يصحّ الربطُ بين الديمقراطية والشورى، لأننا لا نقارن بين نظامٍ وضعيٍّ للحياة من صنع البشر، وبين أسلوبٍ استشاريٍّ في نظام حكمٍ إلهيٍّ كاملٍ هو الإسلام.
الديمقراطية طاغوت
قرَّر الإسلام أنَّ كلَّ تحاكمٍ إلى غير الله هو تحاكمٌ إلى الطاغوت، وأن حكمَ الطاغوت حكمُ الجاهلية. فكلّ تشريعٍ يخالفُ حكمَ الله في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم هو حكمُ البشرِ للبشر، وعبوديةُ الإنسانِ للإنسان، ورفضٌ لإلهيّة الله عزّ وجلّ. فمن جعلَ من نفسه مشرِّعًا مع الله – سواء كان حاكمًا أو نائبًا أو هيئةً تشريعية – فقد اتَّخذ مكانَ الربوبية في التشريع. ولهذا كانت المجالس النيابية التي تُشرّع من دون الله صروحًا للطاغوت يجبُ اجتنابُها، إذ جعلت من نفسها مشرِّعًا يُطاع في التحليل والتحريم، والطاعةُ في التشريع عبادةٌ لا تُصرف لغير الله.
السيادة في الإسلام
السيادةُ في الإسلام للشرع، لا للشعب؛ فالشريعةُ هي المرجع الوحيد للدستور والقوانين. ولا يصحّ أن يُقال: «الإسلام أحد مصادر التشريع» أو «المصدرُ الأساسي»، لأن ذلك يُخالف أمرَ الله بجعل الكتاب والسنة وما أرشدا إليه المصدرَ الوحيد للتشريع. أمّا السلطان، فهو للأمّة، تمنحه للخليفة حين تبايعه على تطبيق الشرع. فهو نائبٌ عنها في التنفيذ لا في التشريع، ومحاسَبٌ على أيّ تقصيرٍ في رعاية شؤون الناس بما أنزل الله.
حكم الترشيح والانتخابات
الحكمُ الشرعيّ في الترشيح للمجالس النيابية القائمة في الدول الحالية أو انتخاب أعضائها يتبيَّن من واقعها: فهي مجالسُ تُشرّع أنظمةً وقوانينَ بشريةً تناقض الإسلام. والتشريعُ عملٌ محرَّمٌ في الإسلام، لأنه حقٌّ خالصٌ لله وحده، لا يُمارَس تصويتًا ولا تفويضًا، حتى لو وافق القانونُ الوضعيُّ حكمًا شرعيًا، فالعبرةُ ليست في المطابقة الشكلية، بل في المصدر؛ فإن لم يكن من الوحي، فليس شرعًا. لذلك يحرم على المسلم أن يشارك في هذه المجالس ترشيحًا أو انتخابًا أو تصويتًا للمشرعين من دون الله.
في معنى المحاسبة
محاسبةُ الحكام واجبةٌ شرعًا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها إن قامت على أساس الدستور الوضعي كانت تحاكمًا إلى الطاغوت. فالدساتير المعاصرة تُساوي بين تشريع الله وتشريع البشر، بل تُقصي حكمَ الله لتجعل الحكمَ للشعب، وهذا يناقض أصلَ التوحيد.
التحذير من خدعة الاستفتاء
الاستفتاءُ الشعبيّ في الأنظمة الديمقراطية على دستور الدولة أو على بعض التشريعات التي تسنها المجالس النيابية خدعةٌ سياسيةٌ يراد بها تشريع الباطل وإشغالُ الأمّة عن واجبها. أمّا في الإسلام، فليس للاستفتاء على التشريع موضعٌ في دار الإسلام؛ لأن التشريع ليس من حقوق الشعب، بل من خصائص الربّ سبحانه، فلا يصح الاستفتاء على قبول الاحتكام إلى شرع الله تعالى أو رفضه.
كلمة ختامية
الانتخاباتُ في ظلّ الدولة الإسلامية تجري وفق أحكام الإسلام، لا وفق الدساتير الوضعية، لأن نظام الحكم فيها هو الخلافة. أما الدخولُ في البرلمانات الوضعية فهو توكيلٌ في حرامٍ، ومشاركةٌ في تشريعٍ باطلٍ، وتضليلٌ للأمّة عن طريق نهضتها الحقّ. فالمطلوب من المسلمين أن يُعيدوا سلطانَ الشرع إلى موقعه، لا أن يُجمّلوا أنظمة الكفر بمساحيق «الإصلاح» الزائفة.
اللهمَّ ألهمْ هذه الأمّةَ رُشدَها، وارضَ عنها، وأجِبْ دعاءَها، وحكِّمْ فيها دينَك، واجعلها هاديةً مهديّة. اللهمَّ اجمعْها على إمامٍ واحد، وانصرْها على الكفّار اللئام، واجعلها أهلًا للشهادة على الأنام. اللهمَّ هيِّئ لنا السندَ الحامي، وأزُرْنا بأقوياءِ المؤمنين وأنقيائِهم، يا أرحمَ الراحمين. اللهمَّ حقِّق وعدَك، وعجِّلْ نصرَك، وانشرْ رحمتَك، ووفّقنا لطاعتِك في السرّ والعلانية.
والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأُمّيِّ الصادقِ الأمين، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
1447-05-08