نموذج الشرق الأوسط الجديد: الهيمنة الأميركية أم الإسلام وخلافتهُ؟ قراءة في مشروع فكري جديد
12 ساعة مضت
المقالات
65 زيارة
البروفيسور محمد ملكاوي
في زمنٍ تتقاطع فيه الحروبُ بالتحوّلاتِ الفكرية، وتتنازع فيه القوى العالمية على روح الشرق الأوسط لا على خرائطه وحسب، يطلّ علينا البروفيسور محمد ملكاوي بعملٍ فكريٍّ جديدٍ يحمل عنوان: «نموذج الشرق الأوسط: سبعون عامًا من الهيمنة الأمريكية وصراع الرؤى». يأتي هذا الكتاب ليفتح نافذةً على جوهر الصراع لا على مظاهره، ويقترح مفاتيحَ تفسيرٍ جديدةٍ تخرج من دائرة الحدث السياسيّ إلى منظورٍ حضاريٍّ عميق يربط بين التاريخ والإستراتيجية والفكر. فهو لا يكتفي بوصف ما جرى، بل يحاول أن يجيب على السؤال الذي تتجنبه مراكزُ البحوث والإعلام: لماذا يستعصي الشرق الأوسط على الاستقرار؟ في هذا العمل يتجاوز المؤلف السردَ التقليديَّ للتاريخ السياسيّ إلى تحليلٍ بنيويٍّ لمفهوم الهيمنة نفسه، فيكشف كيف تحوّلت الوصايةُ الغربية من الاحتلال العسكريّ المباشر إلى منظومةٍ مركَّبة من التبعية الاقتصادية والهندسة الثقافية والسياسية التي تمارسها واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وما يميّز الكتاب أنه لا ينحاز إلى مجرّد النقد، بل يضع القارئ أمام صراعٍ بين نموذجين متقابلين:
نموذجٍ أمريكيٍّ محكومٍ بمفهوم الضبط والسيطرة، ونموذجٍ إسلاميٍّ أصيلٍ يقوم على فكرة الوحدة والسيادة الذاتية. إنه كتابٌ يُعيد ترتيب العلاقة بين الفكر والسياسة والتاريخ، ويدعو القارئ إلى النظر في جذور المنظومة لا في نتائجها، ليكتشف أن ما نراه اليوم من صراعاتٍ وحروبٍ ليس سوى انعكاس لتصميمٍ إستراتيجيٍّ طويل الأمد صاغته الولايات المتحدة، وأن البديل لا يكون بردّ الفعل، بل بإعادة صياغة النموذج الحضاريّ ذاته.
تستعدّ مجلة الوعي، بإذن الله، لنشر مختاراتٍ وتحليلاتٍ من أبرز أفكار هذا الكتاب على حلقاتٍ متتابعة في أعدادها القادمة، تسعى من خلالها إلى فتح حوارٍ فكريٍّ حول مستقبل المنطقة بين مشروعين لا يلتقيان:مشروع الهيمنة، ومشروع النهضة الإسلامية. فهذا الكتاب ليس مجرّد دراسةٍ أكاديمية، بل بيانٌ فكريٌّ لعصرٍ يتشكّل، ودعوةٌ إلى أن نرى الشرقَ الأوسط لا كما يرسمه الآخرون، بل كما يراه أبناؤه الذين يدركون أنّ التاريخَ لمّا يُكتب بعد.
المقالة الأولى:
المُلَخَّصُ
يُقَدِّمُ هذا المقالُ خُلاصةً مُفَصَّلةً لِنَموذجِ الشَّرقِ الأوسَطِ الجديد، تُبَيِّنُ ما آلَت إليهِ الإستراتيجيةُ الأَميركيَّةُ الهادِفةُ إلى الهَيْمَنَةِ الكامِلَةِ على المنطقة، كما يُوَضِّحُ الصِّراعَ الدائِرَ بين الإطارِ الذي تَرْتَكِزُ عليهِ الولاياتُ المتحدةُ – وهو المُتَمَثِّلِ في نَموذجٍ اصْطُلِحَ عليهِ بـ(نَموذجِ 4+2) – وبين النَّموذجِ الإسلاميِّ البَديلِ الذي أشارَ إليه المقالُ بـ(نَموذجِ 1+0). يَضَعُ المقالُ هذَينِ النَّموذجَيْنِ في سياقِ التَّحَوُّلِ التاريخيِّ من الحقبةِ الإمبراطوريَّةِ إلى حقبةِ الهيمنة، مُتَتَبِّعًا ثباتَ التَّصميمِ الإستراتيجيِّ الأَميركيِّ منذ الحربِ الباردةِ مرورًا بنظامِ «البترودولار» في القرنِ العشرين، كما يُقَوّمُ كيف يمكنُ للتيَّاراتِ الأيديولوجيَّةِ النَّاشئةِ أن تُبَشِّرَ بتحوُّلٍ نحوَ السِّيادةِ الأصيلةِ النَّابعةِ من المنطقة.
المُقَدِّمَةُ
لقد كانَ الشرقُ الأوسطُ – ولا يزال – منذ نهايةِ الحربِ العالميَّةِ الأولى، ساحةَ اختبارٍ ونقطةَ ارتكازٍ للقُوى العالميَّة، خاصَّةً بعد انهيارِ دولةِ الخِلافةِ في إسطنبول (تركيا). وشهدت نهايةُ الحربِ العالميَّةِ الثانية (بعد عام 1945م) انهيارَ الإمبراطوريَّاتِ الأوروبيَّةِ التي عمِلت على استعمارِ الشرقِ الأوسطِ وتقسيمه إلى دُوَيْلاتٍ خضعت لسيطرتها منذ نهايةِ الحربِ الأولى. ثم تولَّت الولاياتُ المتحدةُ عبءَ القيادةِ ما بعد الإمبرياليَّةِ الأوروبيَّة، لتُنشِئَ نموذجًا جديدًا تحتَ عنوان: «نموذجُ الشَّرقِ الأوسطِ الجديد» (NewMiddleEastParadigm)، وهو إطارُ عملٍ يهدفُ في نهايتهِ إلى تحقيقِ الاستقرارِ الذاتيِّ للشرقِ الأوسط بما يَضمنُ تدفُّقَ النفطِ، واستمرارَ النفوذِ، والسيطرةَ الأيديولوجيَّة.
من مِصرَ إلى إيرانَ والعراقِ وسوريا والكيان الغاصب وملكياتِ الخليج، حلَّ هذا النَّموذجُ محلَّ الوصايةِ الاستعماريَّةِ بهيكليَّةٍ جديدةٍ من الهيمنةِ غيرِ المباشرة، تُمارَسُ عبر التحالفاتِ والانقلاباتِ والتبعيَّةِ الاقتصاديَّة. ولا يكمنُ جوهرُ هذه الهيمنةِ في الغزوِ المباشر، بل في الاستمراريَّةِ من داخلِ المنطقة، عبر أدواتٍ تُصنَع وتُحضَّر من دُوَلٍ في المنظومةِ نفسِها، بما يُقَلِّلُ من كُلفةِ الهيمنةِ ويزيدُ من أثرِها ويُؤمِّنُ ديمومتَها.
وضعت الولاياتُ المتحدةُ نفسَها حارسةً للنظامِ ومُسيطِرَةً عليه، وعلى استعدادٍ دائمٍ لقمعِ أيِّ حركةٍ أيديولوجيَّةٍ يُمكِنُ أن تجمع العالمَ الإسلاميَّ وتُخرِجَ المنطقةَ من نطاقِ سيطرتِها. وكانت النتيجةُ إنشاءَ توازنٍ طويلِ الأمدِ، أطلقت عليه المصادرُ الأَميركيَّةُ اسمَ: نموذج 4+2، أي أربعةُ أركانٍ إقليميَّة (إيران، تركيا، المملكة العربيَّة السعوديَّة، الكيان الغاصب «إسرائيل»)، يقفُ وراءها دولتَانِ ضامنتانِ للاستقرارِ والتبعيَّة (الولاياتُ المتحدةُ وروسيا). في مواجهةِ هذا النَّموذج يقفُ البديلُ الإسلاميُّ المتجذِّرُ في المنطقةِ منذ خمسةَ عشرَ قرنًا، وهو نموذج 1+0، إشارةً إلى أنَّ الاستقرارَ الحقيقيَّ في الشرقِ الأوسطِ لا يتحقَّقُ إلَّا بقيامِ دولةٍ واحدةٍ لا ثانيةَ لها، هي دولةُ الخلافةِ الإسلاميَّة، التي أُزيلت عام 1924م، ويُعمَلُ اليومَ على إعادتها لتُعيدَ سيادةَ المنطقةِ لأمَّتِها، وتُوحِّدَها في نظامٍ يَضمَنُ الأمنَ والاستقرارَ الحقيقيَّ للأمَّةِ جمعاء، لا للشرقِ الأوسطِ وحدَه. ويتجلَّى الصِّراعُ بين النموذجَيْنِ بصورةٍ مستمرَّة، ولا سيَّما أثناءَ الأزماتِ والحروبِ في غزَّة وسوريا واليمن وليبيا والجزائر.
الطموحاتُ ما بعد الإمبرياليَّةِ وميلادُ الهيمنة
بعد الحربِ العالميَّةِ الثانية، أدركت واشنطن أنَّ الإمبراطوريَّةَ التقليديَّةَ باتت غير قادرة على ضبطِ الجغرافيا السياسيَّةِ للشرقِ الأوسط. وقد بلور دين أتشيسون (وزيرُ الخارجيَّةِ الأميركيُّ في عهدِ الرئيس هاري ترومان) الرؤيةَ لما بعد الإمبراطوريَّةِ الأوروبيَّة، على أُسُسٍ أهمُّها:
إعادةُ الإعمارِ الاقتصاديِّ لأوروبا عبر خطة مارشال.
والهندسةُ المؤسَّسيَّةُ للنظامِ العالميِّ عبر اتفاقيَّات بريتون وودز وحلف الناتو.
وتكوينُ شبكةٍ من الحلفاءِ التابعينَ لأمريكا، وكان الشرقُ الأوسطُ مِحورًا أساسيًا في ذلك.
ومن خلال مبدأ أيزنهاور (1957م) وسلسلةٍ من التدخُّلاتِ السريَّة منذ 1950م، بدأت الولاياتُ المتحدةُ أولى مغامراتِها لإزاحةِ النفوذِ البريطانيِّ دون تحمُّلِ أعبائه الاستعماريَّة. فكانت البدايةُ بـثورةِ الضبَّاطِ الأحرار في مِصر (1952م) التي قامت بمشاركةٍ خفيَّةٍ لوكالةِ CIA. وعندما أجبرت واشنطن بريطانيا وفرنسا والكيان الغاصب على الانسحابِ من مِصرَ خلال أزمة السويس (1956م)، تأكَّد أنَّ السلطةَ الإمبراطوريَّةَ قد انتقلت غربًا عبرَ الأطلسي إلى واشنطن. تتابعت العقودُ لتعزِّز الهيمنةَ الأميركيَّةَ في الشرقِ الأوسطِ عبر المعاهداتِ الأمنيَّة والقواعدِ العسكريَّة والنِّفطِ المُسعَّرِ بالدولار. وبعد حرب 1973م بين بعضِ الدُّوَلِ العربيَّةِ والكيان الغاصب ترسَّخ نظامُ البترودولار بديلًا من الذَّهبِ مرتَكزًا للسيادةِ النقديَّةِ الأميركيَّة، ما ثبَّت البُعدَ الاقتصاديَّ لنموذجِ الشَّرقِ الأوسطِ الجديد.
هندسةُ إطارِ عمل (4+2)
يُلَخِّصُ مفهومُ (4+2) – الذي أُضفِي عليه الطابعُ الرسميُّ في تقريرِ «الجيوسياسة الجديدة للشرق الأوسط» الصادرِ عن مركز بروكنغز (2018م) – الإستراتيجيةَ الأميركيَّةَ في توزيعِ إدارةِ الاستقرارِ الإقليميِّ بين أربعِ دُوَلٍ محوريَّةٍ مع الإشرافِ النهائيِّ من قِبَلِ الولاياتِ المتحدةِ وروسيا.
اختيرت هذه الدُّوَلُ على أساسِ حساباتٍ دقيقةٍ لصُنَّاعِ القرارِ الأميركيِّ:
تركيا: جسرٌ بين العمقِ الإستراتيجيِّ للناتو والعالمِ الإسلامي، بقوَّةٍ هجينةٍ (علمانيَّة–إسلاميَّة) توازِنُ بين الهُويَّتين، وتملكُ بعدًا اقتصاديًّا مهمًّا.
إيران: رغمَ عدائِها الخطابيِّ لأمريكا، تبقى فاعلًا إقليميًّا لا غِنى عنه، كما أظهرتْ مواقفُها في أفغانستان والعراق وسوريا بما يخدمُ المشروعَ الأميركيَّ.
المملكةُ العربيَّةُ السعوديَّةُ: بحكمِ إشرافِها على الحرمينِ الشريفين، تؤدِّي دورَ الاحتواءِ الأيديولوجيِّ من خلالِ الترويجِ لتديُّنٍ غيرِ مُسَيَّسٍ، وحمايةِ نظامِ البترودولار، ودعمِ منظومةِ الاستقرارِ الماليِّ والجيوسياسيِّ.
الكيان الغاصب: قاعدةٌ متقدِّمةٌ للإسقاطِ العسكريِّ والاستخباراتيِّ الغربي، يُتسامَحُ مع أطماعِها التوسُّعيَّةِ ثمنًا لدورِها الحَسَّاس.
إدراجُ روسيا بصفتها ضامنًا مشاركًا يُضفي شرعيَّةً متعدِّدةَ الأطراف، ويُخفي الانفرادَ الأميركيَّ تحتَ قناعِ التوازنِ الدولي.
يهدفُ هذا التصميمُ إلى تهميشِ أوروبا والصين، وتمكينِ واشنطن من إدارةِ الأزماتِ خارجَ قيودِ الأممِ المتحدة.
وقد أثبتت السنواتُ – ولا سيَّما خلالَ الثورةِ السوريَّة (2011–2024) – أنَّ روسيا لم تخرج عن الخطِّ الأميركيِّ، بل أدَّت دورَها «بمهنيَّةٍ تامَّة»، وغادرت الميدانَ حين انتهت مهمَّتُها.
تناقضاتُ الإطارِ وَفَشَلُ الاستقرارِ المَزْعُوم
ومع ذلك، فإنَّ تناقضاتِ إطارِ (4+2) عميقةٌ وجوهريَّة؛ فكلُّ ركنٍ من أركانِه يسيرُ في مسارٍ أيديولوجيٍّ مغايرٍ للآخر.
كما أنَّ سياساتِ الاحتلالِ والحروبِ المتكرِّرةِ التي يشَنُّها الكيان الغاصب تُقَوِّضُ الاستقرارَ الذي يَدَّعي النظامُ ضمانَه. وتفْضَحُ حربُ غزَّة، بما خلَّفَتْه من عواقبَ كارثيَّةٍ على المدنيِّين، الإفلاسَ الأخلاقيَّ والإستراتيجيَّ لنموذجٍ يُساوي الأمنَ بالخضوعِ والهيمنة.
رُؤيَةُ (1+0) الإِسْلاميَّة
في المقابل، يفترضُ نموذجُ (1+0) أنَّ الاستقرارَ الحقيقيَّ لا يُمكنُ أن ينبعَ إلا من كيانٍ سياسيٍّ إسلاميٍّ موحَّدٍ وأصيل، يتمثَّل في دولةِ الخِلافةِ الإسلاميَّة. ويرفضُ هذا النموذجُ التجزئةَ المفروضةَ من الخارج، ويؤكِّدُ أنَّ السيادةَ لله وحدَه، لا للأنظمةِ القُطريَّةِ العلمانيَّةِ التي رَسَمَ حدودَها الاستعمارُ.
تتجهُ هذه الرؤيةُ – التي يُروِّجُ لها مفكِّرون مثل تقيِّ الدِّين النَّبهاني وحركاتٌ كـحزب التَّحرير – نحو إقامةِ دولةٍ قائمةٍ على القرآنِ والسُّنَّة، لها مؤسَّساتٌ مقنَّنةٌ في الحُكمِ والاقتصادِ والقضاء. وليست هذه الحجَّةُ رومانسيَّةً أو مثاليَّة، بل هيكليَّة واقعيَّة؛ فـالوحدةُ – لا تَوازنُ القوى – هي التي أنتجت قرونًا من التماسكِ الحضاريِّ في الشرقِ الأوسطِ قبل عام 1924م. ومنذ سقوطِ الخلافةِ، أدَّت التجزئةُ السياسيَّةُ إلى استدعاءِ التدخُّلِ الأجنبيِّ الدائم.
بالنسبةِ لمؤيِّدي هذا النموذج، فإنَّ استمرارَ الظُّلمِ والاحتلالِ والتبعيَّةِ الاقتصاديَّةِ يُثْبِتُ حتميَّةَ الإحياءِ، إذْ تُغذِّي كُلُّ دورةِ حربٍ أو إذلالٍ الاعتقادَ بقُربِ عودةِ الخلافة، خاصَّةً في ظلِّ عجزِ الأنظمةِ الحاليَّة أمامَ أزماتٍ كحربِ غزَّة (2023 – 2025). ولذلك، يُمثِّلُ نموذجُ (1+0) أيديولوجيَّةً مضادَّةً، وتنبُّؤًا بـصدعٍ نِظاميٍّ سيقودُ حتمًا إلى فشلِ ترتيبِ (4+2).
الهيْمَنَةُ وَوَهْمُ الاسْتِقْرَار
توضِّحُ فصولُ الكتابِ (نموذجُ الشرقِ الأوسطِ الجديد: 4+2 أو 1+0) آليَّةَ خضوعِ مِصرَ وإيرانَ والعراقِ وسوريا والسعوديَّةِ للهيمنةِ الأمريكيَّةِ، حيثُ يتكرَّرُ النمطُ بأشكالٍ مختلفة:
دعمُ الولاياتِ المتحدةِ لجيوشٍ مُذعِنةٍ،
والتلاعُبُ بالتَّنافُساتِ الأيديولوجيَّةِ،
وإحلال واجهة من السيادةِ الشَّكليَّة محل الاستعمارِ العلنيِّ.
لقد استخدمت أمريكا طريقةً واحدةً للهيمنةِ مع تنويعٍ في الأساليب: فمِن انخراطِ كوبلاند السِّرِّي في القاهرة، إلى كسبِ القادةِ العسكريين عبرَ القواعدِ والتَّسليحِ في إيران، ثمّ الاحتلالِ المباشرِ في العراق، ثمّ كسبِ الملوكِ والأمراءِ في الخليج. وفي كلِّ الحالات، كانت النتيجةُ واحدة: تثبيتُ النُّفوذِ الأمريكيِّ بأقلِّ كُلفةٍ وأكبرِ أثرٍ.
ورغمَ أنَّ أمريكا جعلت للكيان الغاصب دورًا محوريًّا ضمن الدُّول الأربعِ الحافظةِ للاستقرارِ، فإنَّ الكيان الغاصب بقي العقبةَ الأخيرةَ أمام اكتمالِ النموذجِ الأمريكيّ. فبرغمِ كونه قاعدةً غربيَّةً متقدِّمةً، فإنَّه يُعَدُّ المصدرَ الأكبرَ لعدمِ الاستقرار بسبب طبيعته الاستيطانيَّةِ التوسُّعيَّةِ، وإصرارِه على الهيمنةِ النوويَّةِ والعسكريَّة، وحروبِه المتكرِّرةِ التي تُفْشِلُ أيَّ استقرارٍ طويلِ الأمد. وقد ثبتَ ذلك بعد ما سُمِّيَ بـ«مؤتمرِ السَّلام» الهادفِ لإنهاءِ حربِ غزَّة، إذْ اضطرت إدارةُ ترامب لإرسالِ نائبِ الرئيس فانس والمبعوثِ الخاص ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر إلى نتنياهو بعد أسبوعٍ فقط من توقيعِ الاتفاق، لإدراكِها أنَّ الكيانَ اليهوديَّ يُبقي المنطقةَ دائمًا على صفيحٍ ملتهبٍ يخدمُ مشاريعَه في التوسُّعِ والتهجيرِ والتفوّقِ الإستراتيجيِّ، خصوصًا في ملفِّ النوويِّ الإيرانيّ.
بل إنَّ الكيان الغاصب وجَّه ضربةً إلى وفدِ التَّفاوضِ في قطر حينَ أحسَّ أنَّ اتفاقًا وشيكًا قد يُبرَمُ إذا استمرَّ التفاوُض.
نَحْوَ شَرْقٍ أَوْسَط مَا بَعْدَ «البِتْرُودُولَار»
بعد نصفِ قرنٍ من هيمنةِ الدولارِ تحتَ غطاءِ نفطِ السعوديَّةِ ومنظومةِ «أوبك»، بدأت ركائزُ هذا النظامِ في التآكل بفعل: التَّضخُّمِ الهائلِ في سيولةِ الدولارِ عالميًّا، والتحوُّلِ في مصادرِ الطَّاقةِ نحوَ البدائلِ، وتراجعِ الحاجةِ إلى النفط، وحملاتِ التَّخلِّي عن الدولار بقيادةِ دولِ البريكس، إضافةً إلى الغضبِ الشعبيِّ من الإبادةِ الجماعيَّةِ في غزَّة.
كلُّ ذلك يُقَوِّضُ الأسسَ الخُلقيةَ والمادِّيَّةَ للسيادةِ الأمريكيَّة. ويُضافُ إلى ذلك خطرُ الحربِ في أوكرانيا واحتمالُ توسُّعِها، ما قد يُحوِّلُ أولويَّاتِ واشنطن من الشرقِ الأوسطِ إلى جبهاتٍ أوسع. وهذا من شأنِه أن يُصيبَ المشروعَ الأمريكيَّ في المنطقة بنكسةٍ قد لا يُعرَفُ بعدها رجوعٌ.
في هذا الفراغِ الدوليِّ المتنامي، يكتسبُ نموذجُ (1+0) صدىً متزايدًا، بوصفِه نموذجًا احتجاجيًّا وبديلًا سياسيًّا في آنٍ معًا، ويمثِّل شكلًا من إنهاءِ الاستعمارِ الأيديولوجيّ.
ومع ذلك، فإنَّ تحقيقَ نموذجِ الخِلافةِ يواجهُ حواجزَ ضخمةً، هي:
هياكلُ الدُّولِ القوميَّةِ الرَّاسخة،
وقمعُ الحركاتِ الإسلاميَّة،
وغيابُ القيادةِ الموحَّدة،
والانشغالُ المستمرُّ بـحروبٍ تُبقي القاعدةَ الشعبيَّةَ بعيدةً من الحلولِ الجذرية.
الخاتِمَةُ
يدعو «نموذجُ الشرقِ الأوسطِ الجديد» القُرَّاءَ إلى النظرِ إلى المنطقةِ، لا بصفتها مجموعة صراعاتٍ متفرِّقة، وإنما بصفتها صراعًا تطوُّريَّا بين الهيمنةِ والأصالة، بين السيطرةِ والوحدة، بين الاستقرارِ والعدالة.
لقد حقَّق نظامُ (4+2) صمودًا لافتًا، لكنَّ استدامتَه تعتمدُ على اختلالٍ دائمٍ في التوازن، وتنازُلٍ خلقيّ مستمرٍّ، بل إنَّ نجاحَه في منع التحوُّلِ الثوريِّ هو نفسُه ما يَضمن العنفَ المتكرِّر.
في المقابل، يُعبِّر نموذجُ (1+0) عن توقٍ عميقٍ إلى السيادةِ والتماسكِ الخلقي. وسواءٌ تحقَّق كدولةٍ سياسيَّةٍ أو بقي مثالًا إرشاديًّا، فإنَّ صعودَه يُعبِّرُ عن نُفادِ صبرِ الأمَّةِ من النماذجِ المستوردةِ والعقيمة.
وليس السؤالُ: أيُّ النَّموذجَيْنِ سيسود؟، بل: هل يستطيعُ الشرقُ الأوسطُ أن يتجاوزَ جدليَّةَ الهيمنةِ والتحدِّي، ليبني نظامًا عادلًا متجذِّرًا في أصولِه الحضاريَّة؟
إذا كان القرنُ العشرون هو عصرَ الإمبراطوريَّةِ والهيمنة، فإنَّ القرنَ الحادي والعشرين قد يكون عصرَ الأفكارِ والنماذج، بوصفِها أدواتٍ للتحريرِ وإعادةِ تشكيلِ العالم. وبهذا المعنى، فإنَّ «نموذجَ الشرقِ الأوسطِ الجديد» هو دعوةٌ إلى الوعي: إلى إدراكِ أنَّ الاستقرارَ الجيوسياسيَّ المنفصلَ عن الشرعيَّةِ الخُلُقية لا يمكنُ أن يدوم، وأنَّ مستقبلَ المنطقة – بل والنظام العالميّ كلّه – سيتقرَّرُ وفق: أيِّ يدٍ ستؤولُ إليها عباءةُ الشرعيَّةِ:
هل إلى أمريكا وأدواتِ هيمنتِها، أم إلى الإسلامِ ودولتِه الواحدة؟
(وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ) [سورة يوسف، آية 21].
1447-05-08